ماهير جايان : الثورة المتواصلة -1

0 79
image_pdf

الثورة المتواصلة -1 *

تمهيد

تسود فوضى نظرية كاملة في يسار بلادنا. لدرجة أن مختلف الفصائل الانتهازية التي تستند إلى نفس الأطروحات التحريفية وتطرحها في السوق بأغلفة مختلفة، معتمدة على قوى أخرى غير قوتها الذاتية، تتهم بعضها البعض بالانتهازية والاستسلامية والخيانة، إلخ بأقسى العبارات. إنهم يخلقون عواصف حول الاختلافات الصغيرة في التقييم أو العبارة فيما بينهم والتي لا تعتبر حتى اختلافات تكتيكية.

في ما يسمى بالجدل الأيديولوجي، هناك مأزق كامل في غبار التحريف المخزي، والترويج البرجوازي-الصغير، وغرور “نحن نعلم أننا قدماء” مستمر منذ سنوات.

نتيجة غياب حركة بروليتارية قوية في بلادنا؛ هي أن المستوى الأيديولوجي في اليسار ليس عالياً. لذلك؛ في مثل هذه البيئة، لا يمكن التمييز بين ما هو صحيح وما هو ملتوي. كل شيء متداخل. وفي هذه البيئة؛ حيث ضاع جوهر نظرية الثورة الماركسية-اللينينية، وتستند النظريات الأصلية “للثورة” لمختلف أشكال الانتهازية باسم ماركس وإنكلس ولينين وستالين وماو تسي تونغ وهوشي منه …؛ من خلال اقتباساتهم المُحاكة من قِبَلِهم. لدرجة أن نوعاً من الانتهازية يتهم الجانب الآخر بالخيانة، مستشهداً بكتابات لينين، في حين أن الجانب الآخر، يتهم متهمه بالتحريفية، مستشهداً بكتابات ماو ولين بياو.

“الماركسية عقيدة عميقة للغاية ومعقدة للغاية”. الماركسية هي عقيدة تعمق وتثري نفسها باستمرار في مواجهة حقائق الحياة الجديدة، تتجاوز نفسها بذاتها. ما هو أساسي في الماركسية ليست الألفاظ، بل المحتوى. الشيء الوحيد الذي لم يتغير في الماركسية هو الطريقة الديالكتيكية، التي هي؛ على حد تعبير لينين؛ روحها الحية. إذا لم تؤخذ بعين الاعتبار؛ مفاهيم الزمان والمكان، وهما العنصران الأساسيان في الديالكتيك، فمن الممكن التحدث عن تحريفية لينين وفقاً لماركس وإنكلس، وماو-تسي تونغ وفقاً للينين وستالين، وعن الثوريين البروليتاريين المنتصرين في الفترة الثالثة من أزمة الإمبريالية وفقاً لماو .

تلجأ الانتهازية في كل مكان دائماً إلى طريقتين لتحريف الاشتراكية العلمية:

إما دون مراعاة مفاهيم الزمان والمكان، فإنها تحتضن الأطروحات التي طرحها أساتذة الماركسية لظروف تاريخية أخرى والتي أصبحت بالية في الفترة الحالية وتحاول جعل هذه الأطروحات أساساً لانحرافها. أو يحرّف أطروحات الماركسية-اللينينية، التي هي صالحة في جميع الظروف، بالقول إن “الزمان والمكان قد تغيرا، لذا فهما غير صالحَين”.

في بلدنا؛ كما هو الحال في كل بلد في العالم؛ تحاول جميع أشكال الانتهازية إرباك المناضلين الثوريين من خلال تشويه الماركسية-اللينينية باللجوء إلى كلتا الطريقتين.

لقد أخذنا هذه الحقيقة بعين الاعتبار عندما كتبنا هذا الكُتيّب. لقد حاولنا طرح فهمنا للثورة، وبالتالي فهمنا للتنظيم وأسلوب العمل، من خلال ذكر كيف تتبع النظرية الماركسية للثورة طريقاً تتعمق فيه وتزدهر بمرور الوقت. في الواقع؛ في تحليلات الاشتراكية العلمية انتقلوا عموماً من الملموس إلى المجرد، وليس من المجرد إلى الملموس. لكن يسار بلدنا يمثل وضعاً خاصاً. كما أشرنا أعلاه؛ في الفوضى النظرية الموجودة في اليسار، لقد اختفى جوهر العقيدة. لذلك؛ بدءاً من المجرد؛ قررنا الخوض في الملموس، ومعالجة المسألة منذ البداية والكشف عن كيفية تعميقها بمرور الوقت.

وهكذا؛ أولاً؛ سنكون قد طرحنا النظرية الماركسية للثورة، التي ضاع جوهرها في هذا المأزق، وثانياً؛ سنكون قد منعنا الانتهازية بجميع أشكالها إلى حد كبير من إرباك رفاقنا المناضلين مع ما يسمى بالجدل الأيديولوجي. (بالطبع؛ لا توجد طريقة لمنع تحريف الانتهازية تماماً. ومع ذلك؛ من الممكن وضع المسألة بوضوح تام، مما يجعل تحريف الانتهازية غير فعال إلى حد كبير).

لهذه الأسباب اتّبعنا طريقة من مجردة إلى ملموسة في تحليلاتنا.

درسنا المسألة في ثلاثة أقسام. يحتوي القسم الأول على النظرية الماركسية للثورة في فترات ماركس وإنكلس ولينين.

القسم الثاني؛ هو تعميق النظرية اللينينية للثورة المتواصلة التي صاغها لينين نفسه في التكتيكَين. تطبيق هذه النظرية على ممارسات البلدان المستعمرة وشبه-المستعمرة؛ تشمل التفسيرات المنفصلة لاقتراح لينين من قِبَل الكومينترن(الأممية الثالثة) وماو في عهد ستالين: جوهر أطروحة الطريق اللارأسمالي ونظرية الثورة الديمقراطية القومية.

ويغطي القسم الثالث السمات المميزة للإمبريالية، وإثراء وتعميق الاقتراح اللينيني في مواجهة الظروف الجديدة والاستراتيجية الثورية للبلدان شبه-المستعمرة، والتفسيرات الثورية والتحريفية للثورة الكوبية، ومسار الثورة التركية.

بالإضافة إلى ذلك؛ في كل فصل هناك جميع أنواع الانتقادات للانتهازية في بلدنا حول المسائل المتعلقة بالموضوع.

التحرير/كورتولوش

تعريف الثورة

النظرية الماركسية للثورة حتمية وإرادية (فولونتاري) أيضاً. هذا الجانب المزدوج يشكل كلاً ديالكتيكياً. لكي تحدث الثورة، فإن وجود أساس مادي؛ أمرٌ ضروري. إذا كانت القوى المنتجة في المستوى الضروري للثورة (مستوى معين)، يمكن أن تكون هناك ثورة. معنى هذا؛ أنّ النظرية الماركسية للثورة؛ حتمية. لكن من أجل انتصار الثورة لا يكفي فقط؛ أن تكون القوى المنتجة عند مستوى معين وأن تكون الظروف الموضوعية ناضجة. المبادرة الثورية ضرورية أيضاً لانتصار الثورة. ومعنى هذا أيضاً؛ أنّ النظرية الماركسية للثورة هي نظرية إرادية (فولونتاري).

ولكي تتولى البروليتاريا الحكم، فـيجب على التناقض بين علاقات الإنتاج والقوى المنتجة أن يكتسب العداء(تناقض غير قابل للتوافق) ويصل إلى حده النهائي. (1) من أجل حل هذا التناقض؛ تندفع البروليتاريا، أو بالأحرى مفرزة طليعتها، إلى الأمام بجذب الطبقات الثورية إلى جانبها، وإزالة العنف واضطهاد الجانب المعادي بالعنف الثوري، وتفكيك آلية الدولة القديمة، وإقامة هيمنتها السياسية، (2) جعل الثورة مستمرة حتى المجتمع اللاطبقي من خلال التحول إلى ترتيبات البنية التحتية المناسبة لسلطتها.

“الثورة هي الاستيلاء على السلطة السياسية؛ أو الثورة هي الانتقال من نمط الإنتاج إلى نمط الإنتاج المتقدم”، هذان التعريفان اللذان نحاول مواجهتهما على النحو التالي؛ صحيحان وناقصان أيضاً في حد ذاتهما، وهما مخطئان لأنهما ناقصَين. لا توجد مثل هذه المعضلة في النظرية الماركسية للثورة. مسألة السلطة هي المسألة الرئيسية لكل ثورة؛ ولكن ليس كلها. إنّ تعريف الثورة على أنها “استيلاء البروليتاريا وحلفائها على السلطة” ناقص في حد ذاته، وبالتالي، مثل أي تعريف ناقص، فهو خاطئ. كانت هناك العديد من المبادرات الثورية في التاريخ التي استولت فيها البروليتاريا على السلطة لكنها لم تتمكن من تحقيق التحول الاجتماعي، مثل كومونة باريس. وفقاً لهذا التعريف؛ سيكون من الضروري اعتبار كل هذه الحركات؛ ثورات. وبالمثل؛ فإن المفهوم الثاني ليس نوعياً، لأنه ناقص. وفقاً لهذا التعريف؛ سيكون من الضروري اعتبار حكم بيسمارك التي رفعت ألمانيا من الإقطاع إلى الرأسمالية بـ “الثورة من القمة”؛ ثوري.

يرى المفهوم الماركسي للثورة؛ وجود عملية ثورة مستمرة ومتواصلة. الثورة هي تفكيك جهاز الدولة القائم بمبادرة ثورية من الشعب -من القاعدة إلى القمة-، وهي الاستيلاء على السلطة السياسية، وتنظيم نظام إنتاج أكثر تقدماً من خلال هذه السلطة -من القمة إلى القاعدة-.

منذ ظهور الطبقة العاملة على مسرح التاريخ كقوة مستقلة، ظهرت الانحرافات في الحركة الاشتراكية دائماً على شكل مبالغة أو إهمال لإحدى هذه السمات المزدوجة لنظرية الثورة.

الفصل الأول

نظرية الثورة في ماركسية ما قبل الاحتكار

1.

مفاهيم الثورة عند ماركس وإنكلس

نرى ثلاثة مفاهيم للثورة عند ماركس وإنكلس: الثورة السياسية، الثورة الاجتماعية والثورة المستمرة. (سندرس الثورة المستمرة في الفصل الثالث).

وفقاً لماركس وإنكلس؛ تُعتَبَرالثورة السياسية هي انتقال السلطة السياسية في تلك العملية التاريخية إلى حكم أكثر تقدمي، والإطاحة بالسلطة الرجعية القائمة. لكي تكون الحركة ثورة سياسية؛ من الضروري أن يكون هناك صراع على السلطة من قبل جزء كبير إلى حد ما من جماهير الشعب (3). إذا انتقلت السلطة إلى أيدي ثورية نتيجةً لانتفاضة الجماهير، فعندها فقط يمكننا التحدث عن الثورة السياسية. (4) ثانياً؛ وفقاً لماركس وإنكلس؛ لكي تُعتَبَر الحركة ثورة سياسية؛ يجب أن تكون الحكومة الناتجة تقدمية وديمقراطية. إنّ وصف ماركس هذا؛ يتعلق بالمجتمع البرجوازي في فترة ما قبل الاحتكار. إن معيار التقدمية عند ماركس وإنكلس مثير للاهتمام للغاية. كمقياس لتقدمية الحركة، يقول ماركس:

“القرض العام والقرض الخاص هما مَوازين حرارة اقتصادية لقياس شدة الثورة. وبقدر ما يسقطون، ترتفع القوة المدمرة والإبداعية للثورة”. (الصراعات الطبقية في فرنسا) (5)

حكم واحد فقط قادر على توجيه ضربة قاتلة للقروض العامة والخاصة؛ وهذا؛ هو حكم البروليتاريا. في هذا الصدد؛ فإن الثورة السياسية ذات أعلى درجات العنف المدمر والقوة الخلاقة على أرض المجتمع البرجوازي؛ هي الثورة البروليتارية. هذه الثورة تجلب أيضاً التحول الاجتماعي (الثورة الاجتماعية). لأن هذه الثورة ستلغي القرض البرجوازي وسوق الأوراق المالية. وهذا؛ هو إلغاء النظام والإنتاج البرجوازي؛  والانتقال إلى النظام الاجتماعي والاقتصادي الجديد.

ثورة 18 فبراير/شباط؛ هي ثورةٌ سياسية. فشلت الثورة التي استهدفت الأرستقراطية المالية؛ في توجيه ضربة قاتلة للقرض العام والخاص، لكنْ حدّت منه فقط. لم يضع فبراير/شباط حدّاً للنظام البرجوازي، فقط أنهى حكم زمرة رجعية منه. وسعى وعمّقَ إطار الحقوق والحريات الديمقراطية. لم تكن ثورة فبراير/شباط ثورة اجتماعية؛ لأنها لم تُنهي النظام البرجوازي، لكن كانت ثورة سياسية؛ لأنّ نتيجة انتفاضة الجماهير تمت الإطاحة بالنظام الأكثر رجعية للأرستقراطية المالية واستبداله بإدارة أكثر تقدمية، والتي تجد تعبيرها في الجمهورية الاجتماعية.

كان تعريف ماركس للثورة الاجتماعية (الذي يعني ثورة حقيقية) يعتمد على الانتقال من نمط الإنتاج  إلى نمط إنتاج أكثر تقدماً.

حول هذا الموضوع يقول ماركس:

“إن قوى الإنتاج المادية في المجتمع؛ في مرحلة معينة من تطورها؛ تتعارض مع علاقات الإنتاج القائمة التي كانت تعمل فيها حتى الآن، أو مع علاقات الملكية، التي لم تكن أكثر من تعبيرها القانوني. هذه العلاقات تتوقف عن أن تكون أشكالاً ناتجة عن تطور القوى المنتجة وتصبح عقبات أمام هذا التطور. هنا يبدأ عصر الثورة الاجتماعية. التغيير في الأساس الاقتصادي يطيح بالبنية الفوقية الضخمة بسرعة كبيرة أو صغيرة. في دراسة هذه الاضطرابات؛ من الضروري دائماً التمييز بين الاضطرابات المادية لظروف الإنتاج الاقتصادي -التي يمكن تحديدها علمياً على وجه اليقين- وبين الأشكال القانونية أو السياسية أو الدينية أو الفنية أو الفلسفية؛ باختصار؛ الأشكال الأيديولوجية التي يدرك فيها الناس هذا الصراع ويأخذونه إلى النهاية… لا يختفي التكوين الاجتماعي أبداً حتى تتطور جميع القوى المنتجة التي يمكن أن تحتويها؛ إنّ علاقات الإنتاج الجديدة والمتقدمة، والظروف المادية لوجودها، لن تأتي أبداً وتحل محلها حتى تزدهر في حضن المجتمع القديم”. (مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي).

كما يمكن رؤيته على الفور؛ فإن الجانب السائد في نظريات ماركس وإنكلس عن الثورة؛ هو الحتمية الاقتصادية والاجتماعية. دور الإرادية هو ضمن الإطار الحاسم للظروف المادية. وفقاً لهذا المفهوم؛ فإن الثورة السياسية مكمِّلة للثورة الاجتماعية. الثورة السياسية هي نتاج مبادرة ثورية في الإطار الحاسم للظروف المادية. (عندما نقول الثورة البروليتارية؛ فالمقصود؛ الثورة السياسية والاجتماعية).

إذا قسمناها إلى عناصرها:

1-) الثورة السياسية هي مرحلة ضرورية من الثورة الاجتماعية.

الثورة السياسية هي نتيجة حملة ثورية. الثورة هي عمل منظم تتبعها الجماهير وتكون واعية وتعلم ما تفعل. هذا هو الحال بشكل خاص مع الثورة السياسية التي ستؤدي إلى التحول الاشتراكي. إن المنظمة الأقلية ذات الانضباط الحديدي؛ تقوم بثورة سياسية باستخدام المبادرة الثورية في المكان والزمان المناسبين وتحقق التحول الاشتراكي، من خلال رفع وعي الجماهير، ورفع مستوى العمل. الثورة هي نتيجة عمل الجماهير الواعية وتعتمد على الجماهير. لكن الحملة الثورية لتنظيم الثوريين الذين مهنتهم المحصورة في الثورية؛ لها أهمية حيوية هنا. (يستخف المستسلمون دائماً بدور المبادرة الثورية).

2-) من أجل أن تُحدِث الثورة السياسية تحولاً اجتماعياً (يقال لفترة ما قبل الاحتكار. في العصر الذي نعيش فيه، من أجل حدوث ثورة)، وبعبارة أخرى؛ من أجل أن تكون هناك ثورة اجتماعية، فمن جهة؛ يجب أن تكون الظروف التاريخية والبنية الاقتصادية والاجتماعية كافية، ومن جهة أخرى؛ يجب أن يكون مستوى وعي وتنظيم جماهير الشعب عالياً.

إن الدور الحاسم في الثورة الاجتماعية لا تلعبه المبادرة الثورية فقط. ليس الأبطال يصنعون التاريخ بل التاريخ يصنع الأبطال. إن تاريخ الثورات على الرغم من الاستيلاء على السلطة؛ مليء بإحباط المبادرة الثورية بسبب عدم كفاية الظروف الموضوعية (رغم كل بطولتها). التاريخ من حركة منذر إلى الشيخ بدرالدين وحتى كومونة باريس؛ لقد كان مسرحاً لهزائم المبادرة الثورية التي لم تكن منسجمة مع الأسس المادية للفترة التي عاشت فيها.

مهما كانت الحملة الثورية في فترة معينة قوية، وإنْ كانت تلك الفترة التاريخية تجعل من المستحيل على هذه الحملة تحقيق النصر، وإنْ لم تصل ظروف الحياة المادية إلى مرحلة نضج معينة لنجاح هذه الحملة، فإنّ الهزيمة هي نتيجة مقدّرة.

في تحليله لحركة منذر؛ يكشف إنكلس عن الوحدة الدياليكتيكية بين المبادرة الثورية والحتمية التاريخية والاجتماعية بمهارة كبيرة:

“إن أكبر كارثة يمكن أن تصيب قائد حزب متشدد (يستخدم بمعنى عدم ملاءمة تلك الفترة التاريخية)؛ بأّنّه يتعين عليه الاستيلاء على السلطة في وقت لا تكون فيه الحركة ناضجة بما تكفي لتولي الهيمنة الطبقية التي تمثلها تلك الحركة وتنفيذ التدابير التي تتطلبها تلك الهيمنة الطبقية. ما يمكن أن يفعله هذا القائد لا يعتمد على إرادته. يعتمد هذا؛ في أحسن الأحوال؛ على الدرجة التي وصل إليها الصراع بين مختلف الطبقات، وعلى درجة تطور الصراع بين الطبقات، وعلى درجة تطور الظروف المادية للعيش، وعلاقات التبادل والتوظيف التي تحدد في كل لحظة درجة تطور التناقضات الطبقية… وبالتالي؛ فهو يواجه لغزاً غيرُ قابلٍ للحل. ما يمكنه فعله يتعارض مع جميع أفعاله السابقة ومبادئه والمصالح اليومية لحزبه. ما سيفعله هو شيء لا يمكن أن يحدث”. (حرب الفلاحين في ألمانيا).

يكشف ماركس في نظرية الثورة عن العلاقة والتناقض بين المبادرة الثورية والحتمية الاقتصادية والاجتماعية؛ على النحو التالي:

“الناس يصنعون تاريخهم بأنفسهم؛ ولكن ليس في الظروف التي اختاروها، وفقاً لسعادتهم، بل في الظروف التي قدمها الماضي وأورثه مباشرة “. (انقلاب لويس بونابرت).

ويشرح ماركس سبب الثورات ضد الرجعيين الذين يدّعون أن الثورات هي من عمل حفنة من المحرّضين؛ على النحو التالي:

“لقد انتهى زمن الخرافات التي تصور الثورات على أنها نتاج إرادة المحرضين الخبيثين. أينما نشأت نوبة ثورة، يعلم الجميع الآن أن هذا التشنج ينشأ من الاحتياجات الاجتماعية التي لا يمكن تلبيتها من قبل المؤسسات البالية”. (من خطاب ماركس أمام أعضاء المجلس القضائي في كولونيا عام 1851، نقلاً عن هنري لافابفرا، علم اجتماع ماركس).

المسألة واضحة. ولكي تنجح المبادرة الثورية في دورها، يجب أن توضع الثورة على أساس مادي. وبعبارة أخرى؛ لكي تحقق الحملة الثورية النصر؛ يجب على البنية التحتية أنْ تصل إلى مستوى معين.

“تحتاج الثورات إلى أساس مادي. لا يمكن أن تحدث النظرية بين شعبٍ؛ ما لم تمثل تحقيق احتياجاتها. لا يكفي أن يكون الفكر موجهاً نحو التحقيق، بل يجب أن يكون التحقيق موجهاً نحو الفكر”. (ماركس)

2.

مرحلة الثورة، مرحلة التطور ونظرية الأزمات

 “عندما تعلق الأمر بالتطورات التاريخية الكبرى” كتب ماركس إلى إنكلس؛ “عشرون عاماً لا تُعَد يوماً واحداً، ولكن قد تأتي أيام تجمع فيها عشرون عاماً كاملة”. (لينين؛ تكتيك الصراع الطبقي للبروليتاريا؛ مصدر الماركسية).

صاغ ماركس وإنكلس النضال الثوري للبروليتاريا على مرحلتين: التطور والثورة.

في كلتا المرحلتين تختلف التكتيكات الثورية للبروليتاريا.

مرحلة الثورة هي فترة قصيرة. هذه المرحلة هي مرحلة تقلّب النظام الاجتماعي المُعطَى. في هذه المرحلة القصيرة تكتيك البروليتاريا وطليعتها هو الهجوم؛ هناك بند واحد فقط على جدول الأعمال: الانتفاضة! إن تكتيك البروليتاريا في هذه الفترة هو تأسيس السلطة الثورية للبروليتاريا عن طريق تفكيك آلية الدولة الموجودة. أطلق ماركس وإنكلس على هذا التكتيك اسم “التحدث بالفرنسية”، مستوحى من التقاليد والحملة الثورية للفرنسيين. وفقاً لماركس وإنكلس؛ الانتفاضة هي فن.

“اليوم؛ الانتفاضة هي حقاً فن من نوع الحرب، وعندما يتم إهمالها، فإنها ملزمة بقواعد تؤدي إلى خراب الحزب المهمل… لا تلعب مع الانتفاضة إلا إذا كنت مستعداً تماماً لمواجهة عواقب لعبتك أولاً… ثانياً؛ بمجرد أن تبدأ الانتفاضة، فإنها تمضي قُدُماً بأعظم تصميم وخطة هجومية. العملية الدفاعية هي موت كل انتفاضة مسلحة… كما يقول دانتون؛ أعظم أستاذ معروف للسياسة الثورية حتى يومنا هذا: “الإقدام والإقدام ثم الإقدام”. (فريدريك إنكلس، ألمانيا، الثورة والثورة-المضادة، الناشرون الدوليون 1932) (6)

كما رأينا؛ لا ينبغي أبداً اللعب بالثورة؛ قبل أن تنضج الظروف. ولكن بمجرد أن تبدأ الثورة؛ علينا أن نشنّ هجوماً دون توقف، من أجل تحقيق الانتصارات كل يوم مهما كانت صغيرة لجذب المترددين إلى جانبه ومن الضروري أيضاً الهجوم لاصطياد العدو على حين غرة.

هذا هو تكتيك البروليتاريا في مرحلة الثورة.

ما هي مهمة مفرزة طليعة البروليتاريا حتى هذه المرحلة القصيرة من الثورة، هل تقف منتظرة؟ بالطبع لا؛ ينقل لينين وجهات نظر ماركس وإنكلس حول مهام الحزب البروليتاري في هذه المرحلة، التي تستمر لفترة أطول بكثير من مرحلة الثورة؛ على النحوالتالي:

“في كل مرحلة من مراحل التطور؛ وفي كل لحظة؛ يجب على التكتيك البروليتاري أن يأخذ بعين الاعتبار الدياليكتيك التالي؛ الذي لا مفر منه موضوعياً في تاريخ البشرية: فمن ناحية؛ يجب أنْ يستفيد من فترات الركود السياسي، أي-السلم، ويتقدم بخطوات السلحفاة لزيادة وعي طبقته الطليعية قوتها ونضالها، ومن ناحية أخرى؛ تنظيم كل هذا العمل بتوجيهه نحو الهدف النهائي للطبقة الطليعية التي تجمع الطبقة العاملة في عشرين سنةٍ كاملة، لجعلها قادرة على إنجاز أشياء عظيمة في أعمال عظيمة “. (تكتيك الصراع الطبقي للبروليتاريا، مصدر الماركسية).

إن النضال الثوري في هذه الفترة الطويلة يشمل داخلياً النضال الأيديولوجي الدؤوب ضد الانتهازية، ورفع وعي وقوة الطبقة الطليعية، وتثقيفها، وخارجياً؛ تنظيم النضال اليومي للجماهير، من النضال النقابي للبروليتاريا إلى النضال الاقتصادي والديمقراطي لجماهير الشعب، إلى توجيه المعارضة السياسية ضد النظام الرجعي الحالي، والاستيلاء على أقصى يسار الجيش الديمقراطي. أطلق ماركس وإنكلس على اللغة الثورية للبروليتاريا في هذه المرحلة خطاباً ألمانياً بسبب المستوى الأيديولوجي-النظري العالي للبروليتاريا الألمانية وقدرتها على جذب جماهير الشعب إلى صفوفها. كما يُرى؛ تتشكل تكتيكات البروليتاريا وفقاً للظروف والأوضاع الملموسة. عندما تتغير الظروف، تتغير التكتيكات أيضاً.

الثوري البروليتاري؛ هو الذي يستخدم كلتا اللغتين في المكان والزمان المناسبين. كما قال ماركس بعد الاستلهام من لودويغ فيورباج؛ الثوري: إنه المحارب الذي لديه “القلب الفرنسي والرأس الألماني“. أما حزب البروليتاريا فهو منظمة كفاحية تأسست على أساس المادية الدياليكتيكية والتاريخية، التي تجعل من جميع أشكال العمل، من أصغر حركة إصلاحية إلى التدهيش الثوري، مسألة جدول أعمال في المكان والزمان المناسبين.

أساس كل الانحرافات اليمينية و “اليسارية” التي نشأت في الحركة الثورية؛ هو الخلط بين التكتيكات الثورية لهاتين المرحلتين؛ إما محاولة التحدث بالفرنسية في مرحلة التطور، أو الإصرار على الألمانية في مرحلة الثورة، أو في كلتا المرحلتين؛ التحدث بـ اللغة المشوهة لتلك المراحل. (بعبارة أخرى؛ من الممكن تلخيص سبب كل الانحرافات على أنها إهمال أو مبالغة في أي جانب من جوانب الاتجاه المزدوج لنظرية الثورة).

كافح ماركس وإنكلس طوال حياتهما؛ مع كلا الانحرافين بأعنف الأشكال. بطريقةٍ ما تعارض الاشتراكية العلمية؛ البلانكيين والباكونيين، المنفصلين عن الجماهير، المتآمرين، الذين يحاولون التحدث بالفرنسية قبل أن تنضج الظروف الموضوعية، من ناحية؛ ضد الشيوعيين الألمان، الذين يسميهم ماركس وإنكلس خيميائيي الثورة، ومن ناحية أخرى؛ ضد الإصلاحيين البرودونيين واللاساليين، وضد الإصلاحيين البرجوازيين-الصغار الإنجليز والألمان، الذين يحاولون إدخال النضال السياسي للبروليتاريا إلى الميدان وفقاً لرغبات الرأسمالية، لقد تشكلت من خلال الصراعات النظرية-الأيديولوجية التي خاضها ماركس وإنكلس طوال حياتهما في الممارسة الثورية.

ما هي العوامل التي تحدد مراحل التطور والثورة؟ هل مراحل الثورة مرتبطة بالصدفة؟ بالطبع لا. الثورات لها قانون. يربط ماركس وإنكلس مرحلة الثورة بالأزمة الثورية. (من الضروري أن يكون مستوى وعي البروليتاريا وتنظيمها كافياً أيضاً للثورة).

لفترة طويلة؛ لم يكن لمفهوم الأزمة الثورية لدى ماركس وإنكلس طابع مفهوم واضح لا لبس فيه. بسبب هذه الحالة الغير واضحة لمفهوم الأزمة الثورية؛ أخطأ ماركس وإنكلس في ثورات عام 1848.

برنامج الأزمة الثورية في الاشتراكية العلمية يتضمّن عناصر مختلفة مثل الأزمة الاقتصادية، الأزمة الاجتماعية، الأزمة السياسية والأزمة المستمرة.

كما أشرنا أعلاه؛ كانت نظرية الأزمات هذه في الاشتراكية العلمية؛ غامضة للغاية حتى صدور كتاب رأس المال. قال ماركس وإنكلس في المانيفستو: “يكفي ذكر الأزمات التجارية والتي مع حدوثها الدوري تُعرّض وجود المجتمع البرجوازي للخطر أكثر في أي لحظة”. هذه الأزمات الاقتصادية هي نوبات قلبية، يزداد خطرها في كل مرة، والتي ستستمر حتى نهاية حياة الاقتصاد البرجوازي. بنفس الوقت؛ هذه الأزمات تخلق أيضاً أزمات اجتماعية. لكن وجود هاتين الأزمتين لا يكفي لحدوث ثورة؛ ومن أجل أن تنضج الظروف الموضوعية للثورة، بالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية، من الضروري تعمّق الأزمة الاجتماعية (7) ووجود أزمة سياسية تؤدي إلى الإطاحة بالحكم البرجوازي. (وجود مثل هذه الأزمة السياسية يعتمد على تعمّق الأزمة الاجتماعية ووجود أزمة اقتصادية).

إنْ لم تصل هذه الأزمات الثلاث إلى حدودها النهائية بهذه الطريقة، فلا يمكن أن تكون هناك ثورة. (بالنسبة للثورة؛ يجب أن تنضج الشروط الموضوعية للثورة).

يشمل مفهوم الأزمة الثورية الذي استخدمه ماركس وإنكلس خلال ثورات عام 1848؛ الأزمة الاقتصادية والاجتماعية غير المتعمقة. عندما اندلعت ثورات عام 1848، اعتقد ماركس وإنكلس أن اللحظة المنتَظَرة قد حانت. واعتقدوا أنّ الأزمة التي اندلعت؛ هي الأزمة المستمرة والنهائية للرأسمالية. في هذه الأيام؛ يأمل ماركس وإنكلس أنه بدون تراجع أو ركود؛ سيكون من الممكن الاستيلاء على السلطة السياسية وإحداث تحول اجتماعي. حول هذا الموضوع يقول إنكلس:

“… أنه في ظل الظروف السائدة بالنسبة لنا آنذاك، كان النضال العظيم قد بدأ أخيراً ويجب أن ينتهي في فترة واحدة طويلة من الثورة المعقدة (يقصد الثورة المستمرة)، لكن لا يمكن أن يكون هناك شك أنه لن ينتهي إلا بالنصر النهائي للبروليتاريا “. (مقدمة للصراعات الطبقية في فرنسا).

ومرة أخرى؛ يقول إنكلس بصراحة أنّ أولئك الذين فكروا مثلهم بهذه الطريقة بين 1848-1850؛ كانوا مخطئين:

“لقد أظهر التاريخ بأننا وكل من فكر مثلنا مخطئين. لقد أظهر أن حالة التطور الاقتصادي في القارة الأوروبية كانت بعيدة عن النضج بطريقة تسمح للإنتاج الرأسمالي بالزوال في ذلك الوقت (…) وبعد ذلك، حتى بعد عشرين عاماً من الفترة التي وصفناها هنا، تم إثبات استحالة وجود سلطة للطبقة العاملة مرة أخرى”. (المرجع نفسه، انظر أيضاً، مقدمة الطبعة الإنجليزية لعام 1888 من المانيفستو).

بسبب عدم كفاية الظروف الموضوعية في عام 1850، يقول ماركس أيضاً أنه من الخطأ توقع حدوث ثورة بروليتارية:

“بما أن مثل هذا الازدهار العام ممكن، حيث تتطور القوى المنتجة للمجتمع البرجوازي، بقدر ما تسمح به الظروف البرجوازية؛ فلا يمكن أن يكون هناك شك في حدوث ثورة حقيقية. لا يمكن لمثل هذه الثورة أن تحدث إلا عندما يشتبك هذان العاملان، أي القوى المنتجة القائمة وأشكال الإنتاج البرجوازية، مع بعضهما البعض. لن تأتي ثورة جديدة إلا بعد أزمة جديدة، وكلما كان وصول أحدهما أكثر يقيناً، زاد يقين وصول الآخر”. (الصراعات الطبقية في فرنسا).

يقول ماركس أنه في الفترة 1848-1850؛ أصبح كل تقدم ثوري للبروليتاريا ضعيفاً ويتلاشى بشكل متزايد بسبب عدم كفاية الظروف الموضوعية:

“عندما بدا أن كل خطوة بالحركة تفوز؛ حاولت استعادة مكانتها في المقدمة (البروليتاريا)، ولكن في كل مرة أصبحت أكثر ضعفاً، وفي كل مرة أصبحت النتيجة أضعف”. (انقلاب لويس بونابرت).

بعد كل هذه التصريحات، يصبح مفهوم الأزمة الثورية أكثر وضوحاً مما كان عليه في المانيفستو. وكما قال ماركس؛ إنّ التناقض بين الطابع الاجتماعي للإنتاج والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج من دون الوصول إلى تنازع عدائي، وأنّ للرأسمالية إمكانية تطوير وسائل القوى المنتجة، فإنّ الأزمات الاقتصادية الثورية للرأسمالية لا يمكن أن تؤدي إلى ثورة. من الواضح؛ أنّ نظام الإنتاج هو دياليكتيك كلي. مثل أي ديالكتيكٍ كلي؛ يعني بدوره يحتوي على الوحدة، الاتحاد وأيضاً الانفصال، والتناقض.

فمن ناحية؛ تتوافق علاقات الإنتاج القائمة في لحظة تاريخية معينة مع القوى المنتجة، وتثيرها، وتطورها، ومن ناحية أخرى؛ في لحظة تاريخية أخرى؛ تتناقض مع نفس القوى المنتجة، وتحد من تطورها؛ هذه هي دياليكتيكية نظام الإنتاج.

تنشأ سلسلة من الصراعات من التناقض الأساسي بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج. هذه الصراعات هي؛ اقتصادية بين الإنتاج والاستهلاك، بين الطبقات، بين البروليتاريا والكادحين، والبرجوازيين واجتماعية بين مختلف فصائل البرجوازية، وإنها ذات طبيعة سياسية بين البروليتاريا والبرجوازية على شكل نضال للإطاحة بالدولة والنظام البرجوازيَين أو الحفاظ عليهما.

لحظة الثورة؛ هي عندما تندمج الأزمات الثلاث وتتعمق في أزمة واحدة بسبب التشابك إلى حد نهائي لهذه التناقضات الأساسية، أي وجود أزمة ثورية. لا يمكن أن تحدث الانتفاضة إلا في وجود مثل هذا الوضع.

من أجل توسيع الصراع الطبقي في فرنسا (1848-1850) والوصول إلى الثورة الأوروبية (بمعنى الثورة العالمية)؛ ينص ماركس على وجود حرب عالمية من شأنها أن تضع جميع دول أوروبا ضد بعضها البعض. مع الأخذ في الاعتبار؛ حقيقة أنّ الحرب العالمية الأولى أدت إلى أول ثورة بروليتارية كبرى في العالم، فإنّ فكرة ماركس هذه؛ بالفعل نبوءة عظيمة، لكن من المستحيل القول أنها ليست نبوءة علمية. (بالطبع؛ من الحقائق المعروفة جيداً؛ إنّ جزءاً من نبوءة ماركس بأن الثورة ستحدث أولاً في إنجلترا وأن الثورة البروليتارية ستنتشر في جميع بلدان أوروبا؛ لم يتحقق. لكن المهم هنا هو الملاحظة المنطقية بأنّ الحرب العالمية بين البلدان الرأسمالية ستؤدي إلى ثورة بروليتارية). يقول ماركس حول هذا الموضوع:

يتوسع الصراع الطبقي داخل المجتمع الفرنسي إلى حرب عالمية تواجه فيها جميع الأمم.  لـحلٍّ على نطاق عالمي؛ من الممكن الاقتراب من الأمة الحاكمة التي تهيمن على السوق العالمي، أي إنجلترا، نتيجة لحرب عالمية وبالتالي زوال البروليتاريا. الثورة الموجودة هناك؛ ليست في نهايتها، بل في بداية تنظيمها، ليست ذات نفَس(مدى) قصير. جيل اليوم مشابه لليهود الذين أخذهم موسى إلى الصحاري. إنه ليس مجرد عالم جديد يجب أن يغزوه، بل يجب أن يضحي بنفسه لإفساح المجال للأشخاص الذين يمكنهم التنافس مع العالم الجديد”. (الصراعات الطبقية في فرنسا).

يكمل إنكلس نبوءة ماركس هذه؛ فيما يتعلق بحقيقة الثورة البروليتارية الأولى، بعد ثلاثين عاماً من قول ماركس لها، وقبل ثلاثين عاماً من الثورة البروليتارية الأولى، في 15 ديسمبر 1887، ويخبر الثوريين البروليتاريين من بعدهم بزمن الثورة. (فقط في روسيا امتثل لينين والبَلاشفة لتحذير إنكلس).

يقول إنكلس حول هذا الموضوع:

“… بالنسبة لبروسيا-فرنسا؛ لا توجد حرب أخرى ممكنة باستثناء حرب عالمية، وستكون هذه الحرب ذات حجم وشدة غير متخيلة حتى الآن. سوف يُبيد من ثمانية-عشرة ملايين جندي بعضهم البعض. وبالتالي يلتهمون أوروبا بأكملها بشغف حتى يتمكنوا من نهبها وتقشيرها كـبصلة بطريقة لا تستطيع حتى أسراب الجراد القيام بها. سيتم اختزال تدمير حرب الثلاثين عاماً في 3-4 سنوات وتنتشر في جميع أنحاء القارة؛ انهيار ناجم عن الجوع والطاعون والمعاناة النهائية وخطر جيوش وجماهير الشعب؛ الارتباك اليائس الناجم عن الإفلاس العام للآلية المصطنعة التي أنشأناها في التجارة والصناعة والبنوك؛ سيصبح انهيار الدول القديمة وفلسفتها التقليدية للدولة بحيث تتدحرج عشرات التيجان على الأرصفة ومن المستحيل التنبؤ بمن سيخرج منتصراً من النضال، لكن هناك نتيجة واحدة واضحة تماماً: الاستنفاذ العام وتهيئة الظروف لتحقيق النصر النهائي للطبقة العاملة.

هذا هو الحال عندما يبدأ نظام سباق التسلح المتبادل، الذي وصل إلى حدوده النهائية، في أن يؤتي ثماره أخيراً … قد تدفعنا الحرب مؤقتاً إلى الوراء، وتنزع منا العديد من المواقف التي كسبناها. ولكن بمجرد أن تترك القوات التي لا يمكنك التحكم فيها دون مراقبة، يمكن أن يتحرك كل شيء كما يحلو له: في نهاية الدراما سوف تهلكون وانتصار البروليتاريا إما أن يتحقق أو ربما يصبح (دوخ) حتمياً”. (لينين، الاشتراكية والحرب).

3.

نظرية الثورة المستمرة والأزمة المستمرة

في الفترة من 1848 إلى خريف عام 1850، كانت وجهات نظر ماركس وإنكلس حول الثورة هي ثورة مستمرة. هذه النظرة الاستراتيجية هي نتيجةً لسوء التقييم على تلك الفترة. بالنظر إلى الأزمتين الكبيرتين لعام 1847 (الأزمة التجارية والصناعية العالمية لعام 1847 والأزمة الزراعية)، اعتقد ماركس وإنكلس أنّ الساعات الأخيرة من الرأسمالية قد حانت، وأن النضال العظيم قد بدأ أخيراً، وأن عصر الثورات الاشتراكية قد فتح. أي؛ أنّ ماركس وإنكلس اعتقدا أنّ الأزمة الاقتصادية للرأسمالية على الصعيد العالمي، والتي انفجرت في عام 1847، كانت الأزمة المستمرة والنهائية للنظام. إذاً نظرية الثورة المستمرة هذه؛ هي نتاج نظرية الأزمة المستمرة.

في الفترة بين 1847-1850، دعا ماركس وإنكلس إلى قيادة البروليتاريا في الثورة الديمقراطية البرجوازية المتأخرة في ألمانيا، معتقدين أن الثورة البروليتارية في فرنسا وأوروبا ستأتي قريباً. خلال هذه الفترة؛ ركّز ماركس وإنكلس في معظم أعمالهما النظرية والعملية على ألمانيا:

“إنّ الشيوعيون يوجهون اهتمامهم إلى ألمانيا أكثر من أي شيء آخر، لأن هذا البلد على وشك ثورة برجوازية، يجب القيام بها في ظروف أكثر تقدماً للحضارة الأوروبية مع بروليتاريا متطورة أكثر بكثير مما كانت عليه في إنجلترا في القرن السابع عشر وفي فرنسا في القرن الثامن عشر، ولأن الثورة البرجوازية في ألمانيا ستكون الخطوة الأولى للثورة البروليتارية التي ستتبعها مباشرة“. (ماركس، إنكلس، المانيفستو).

كما رأينا؛ فإنّ الثورة التي تصوّرَها ماركس وإنكلس لألمانيا هي ثورة مستمرة. والثورة المستمرة هذه التي لاتخلو من المراحل هي نظرية الثورة التدريجية. هنا مهم للغاية. هذه هي السمة الرئيسية التي تميز هذه النظرية التي طبقها لينين على الحياة في الفترة الإمبريالية، عن نظرية الثورة المستمرة للتروتسكية. بالنسبة لألمانيا عام 1849، لم يتوقع ماركس وإنكلس وحدهما الثورة المستمرة. كما تنبأ غوستخالك وأتباعه بثورة مستمرة: لكن ثورتهم المستمرة هي ثورة بلا مراحل أو ذات مرحلة واحدة. (8) (الاستهانة بالإمكانات الثورية للفلاحين، ورفض تحالفات البروليتاريا؛ هذا هو جوهر هذه النظرية) وكانوا يعارضون بشدة اقتراح ماركس [أولاً الثورة البرجوازية، ثم الثورة البروليتارية] للثورة التدريجية: “لماذا سنسفك دمائنا؟ كما أعلنت، أيها السيد الواعظ (المقصود ماركس) أننا سنتخلص من جحيم العصور الوسطى… هل كان يجب أن نركض إلى جانب الرأسمالية؟”

ضد غوتخالك وأنصاره الذين دفعوا على الفور بالانتقال إلى الشيوعية عن طريق الثورة المستمرة من خلال تأسيس السلطة الثورية للبروليتاريا، قال ماركس وإنكلس إنّ مهمة “الثورة القادمة” في ألمانيا هي كنس بقايا الإقطاعيات، وتعميق الديمقراطية البرجوازية، وكما قالوا أولئك أنه من المستحيل تخطي مهمة تاريخية.

تستند نظرية الثورة التدريجية التي تصورها ماركس وإنكلس إلى فكرة أن الثورة البرجوازية المتأخرة في ألمانيا يجب أن تقوم بها البروليتاريا نفسها، من خلال مواجهة البرجوازية الليبرالية، بالتحالف مع الديمقراطيين البرجوازيين-الصغار، وأن البروليتاريا يجب أن تمتد إلى الاشتراكية دون توقف من خلال جعل الثورة مستمرة. وفقاً لهذه النظرية: يجب مواجهة البرجوازية الليبرالية، لأن البرجوازية الليبرالية جبانة وضعيفة، خائفة بعد ما حدث في فرنسا، خانت الثورة بعقد صفقة مع الإقطاعيين. هذا هو السبب في أن الثورة البرجوازية في ألمانيا لا يمكن أن تحدث إلا من خلال مواجهة البرجوازية الليبرالية، أي رغماً عنها.

ومع ذلك؛ فإن هذه الثورة لن تكون ثورة اشتراكية، بل ثورة “جمهورية واجتماعية”. كان من المقرر الإطاحة بالأرستقراطية المحلية والإقطاعية، ومنح الجميع الحق في التصويت، وتحرير الفلاحين من حالة الأقنان، وجعلهم مواطنين أحراراً، أو تعميق الديمقراطية البرجوازية. فقط الملكية الخاصة والاستغلال الرأسمالي والصراع الطبقي سيستمرون. ولكن إلى جانب الملكية الخاصة؛ كان من المقرر إدراج الملكية العامة في مدى مشاركة البروليتاريا في الإدارة. أي أن البروليتاريا سيكون لها رأي في تنظيم الاقتصاد والإنتاج. سيكون الطابع الطبقي للدولة مختلطاً. كان من المفترض أن تكون السلطة هي السلطة المشتركة للعمال والفلاحين والبرجوازية-الصغيرة الراديكالية. وهكذا؛ سيتم تهيئة الظروف لتحرك جديد نحو “الديمقراطية الاشتراكية”. ومع ذلك؛ ينبغي ألا ننسى أنه بعد تصفية الملكية الإقطاعية في الريف، سترغب البرجوازية-الصغيرة بالديمقراطية في تأكيد حكمها من خلال نشر الإنتاج الرأسمالي الصغير (والملكية) بدلاً من ذلك. أي أنها ستحاول إيقاف الثورة “في أسرع وقت ممكن”. يجب على البروليتاريا ألا تعطيها هذه الفرصة. يجب عليها أن تنظم نفسها فوراً كحزب مستقل وأن تجعل الثورة مستمرة.

“ديمقراطيو البرجوازية-الصغيرة… بينما يريدون إنهاء الثورة في أقرب وقت ممكن، ما لم تتم إزالة جميع الطبقات الغنية إلى حد ما من السلطة، وما لم تستولي البروليتاريا على سلطة الدولة، وما لم تتطور المنظمات البروليتارية ليس فقط في بلد واحد ولكن في جميع البلدان الرئيسية في العالم إلى حد أنها توقف المنافسة بين البروليتاريين في هذه البلدان، وما لم تتركز القوى المنتجة، على الأقل القوى الحاسمة، في أيدي البروليتاريين، فإن مهمتنا هي جعل الثورة مستمرة”. (من خطاب ماركس وإنكلس إلى الرابطة الشيوعية من خلال اللجنة المركزية، نقلاً عن ستالين، مبادئ اللينينية).

هذه هي نظرية الثورة المستمرة لماركس وإنكلس، والتي أصبحت فيما بعد النظرية الثورية لماركسية الفترة الإمبريالية.

تجدر الإشارة إلى أنّ نظرية ماركس وإنكلس للثورة المستمرة تحتوي على أربع عناصر رئيسية:

1) نظرية الثورة المستمرة هي نتيجة لنظرية الأزمات المستمرة. (الأزمة المستمرة ليست أزمة متواصلة. هذا يعني أن أزمة الرأسمالية القاتلة ستتوقف من وقت لآخر، لكنها لن تختفي. بعبارة أخرى؛ دخول الرأسمالية فراش الموت، والصحوة من غيبوبتها من وقت لآخر، وتعافيها، مع ذلك غير قادرة على النهوض من السرير).

2) تستند نظرية الثورة المستمرة إلى فكرة أن الثورة الأوروبية وشيكة.

3) تقوم نظرية الثورة المستمرة على فكرة أن الفلاحين الذين كانوا يعتبرون حتى ذلك الحين جيش البرجوازية ، يجب أن يشكلوا جيش البروليتاريا. تفترض هذه النظرية مسبقاً أن جماهير الفلاحين العريضة يجب أن تُوَجَّه ضد الإقطاع ليس من قِبَل البرجوازية؛ بل من قِبَل البروليتاريا. وبعبارة أخرى؛ إنّ نظرية الثورة المستمرة هي التحليل الماركسي للإمكانات الثورية للفلاحين.

4) تستند نظرية ماركس وإنكلس عن الثورة المستمرة إلى فكرة أن البروليتاريا يجب أن تقود الثورة البرجوازية المتأخرة في ألمانيا وأن هذه البروليتاريا؛ بمساعدة البروليتاريا الأوروبية – وخاصة البروليتاريا الفرنسية – يجب أن تتجه دون توقف نحو الثورة الاشتراكية.

خلاصة القول؛ إن جوهر هذه النظرية يستند إلى التقييم الصحيح للإمكانات الثورية لجماهير الفلاحين، وعلى توجيهها نحو الثورة تحت قيادة البروليتاريا.

في الثورة المستمرة لغوتخالك و”الشيوعيين الفظّين” من حوله، إنّ التقليل من شأن الإمكانات الثورية لجماهير الفلاحين، والتقليل من شأن محددات الحتمية الاقتصادية والاجتماعية (جادلوا بأنه يمكن تجاوز فترة تاريخية)؛ أمرٌ أساسي. (الانحراف اليساري). هذه الفكرة تكمن في جوهر نظرية الثورة المستمرة للتروتسكي. كما سنرى في الفصول التالية؛ أنّ جميع الانتهازيين والمستسلمين اليمينيين، المفتقرون إلى المبادرة الثورية، حاولوا دائماً إيجاد غطاء أيديولوجي لاستسلامهم، متشبثين ظاهرياً بالبروليتاريا بإحكام، مقللين من شأن الإمكانات الثورية لجماهير الفلاحين.

وكما رأينا؛ فإن كل الانحرافات “اليمينية” و”اليسارية” متحدة في فرض عبء كبير على البروليتاريا التي لا يمكن أنْ تتحمله وحدها وفي التقليل من شأن ثورية الفلاحين. هذا هو القاسم المشترك بين الانحرافات اليمينية و “اليسارية”. (هذا هو أساس امتلاك التروتسكي لجوهر المَنَاشفة؛ في فترة الثورة الديمقراطية الروسية عام 1905؛ والتي بدت وكأنها “يسارية”).

كما ذكرنا في البداية؛ تخلى ماركس وإنكلس لاحقاً عن هذه النظرية. (بعد عقود 1850) لأن هذه النظرية تستند إلى نظرية الكساد المستمر للرأسمالية. علماً؛ كانت خمسينيات القرن التاسع عشر هي السنوات التي تطورت فيها الرأسمالية وزادت القوى المنتجة وكان المجتمع مزدهراً بالمعنى البرجوازي. (كما هو معروف؛ دخلت الرأسمالية في كساد مستمر، في الفترة الإمبريالية). والكساد الاقتصادي لعام 1847، التي اعتقد ماركس وإنكلس أنه الكساد “المستمر والأخير” للرأسمالية، لم يكن لا كساد مستمر ولا الكساد الأخير للرأسمالية.

أدرك ماركس وإنكلس خطأهما في خريف عام 1850. (انظر الفصل الثاني). وهذا الكساد؛ قالوا أنه كساد دوري. لم تكن الرأسمالية قد دخلت بعدْ فترة من الأزمات المستمرة والمتواصلة. في السنوات التي تلت ذلك؛ درس ماركس مسألة أزمات الرأسمالية. ودرس الأزمات الدورية للرأسمالية والكساد العام للنظام بالتفصيل في كتاب رأس المال. أوضح ماركس في كتابه نقد الاقتصاد السياسي أن جوهر الأزمات الدورية للرأسمالية هذه كان قائماً على “انخفاض الربح إلى ما دون المعدل الطبيعي”، وأن هذه الأزمات الدورية تمتص فائضات الإفراط في الإنتاج وتنظم الاقتصاد بشكل أساسي، وتعالج الهيكل، وأنه بعد كل كساد دوري تبدأ فترة من الازدهار النسبي. (انظر رأس المال، المجلد 5).

نتيجة لهذه التحليلات؛ تخلى ماركس عن نظرية الثورة المستمرة هذه، مدركاً أنه لا يمكن أن تكون هناك أزمة مستمرة (لتلك الفترة) بسبب حالة تطور الرأسمالية في تلك الحقبة. وبقيَتْ هذه النظرية جانباً لسنوات عديدة كـنظرية مهجورة ومنسية. إلى أن تدخل الرأسمالية فترة الأزمات المستمرة (العامة)، أي المرحلة الإمبريالية. خلال هذا الوقت؛ كانت النظرية الماركسية للثورة تهيمن عليها دائماً الحتمية الاقتصادية والاجتماعية (الجانب الحتمي).

في بداية القرن العشرين؛ وجد لينين أنّ قانون الرأسمالية لا يتطور بالتساوي في المجالين الاقتصادي والسياسي – التلميحات الأولى لهذا القانون موجودة في تجريدات ماركس عندما انتقد الاقتصاد السياسي -، صاغ نظرية الإمبريالية؛ وهي أعلى مراحلها قائلاً؛ إن عصر الأزمات المستمرة والنهائية للرأسمالية قد بدأ، وأن “لحظة النضال العظيم التي كان ماركس وإنكلس ينتظرانها” قد حانت، وأعلن أن نظرية الثورة للبروليتاريا الروسية هي نظرية الثورة المستمرة أو المتواصلة.

لقد فسر المتحدثون باسم الأممية الثانية وأحزابها، وخاصة المَناشفة، الفرع الروسي لهذه المنظمة، كلمات ماركس وإنكلس آلياً بأنهم كانوا مخطئين في مسألة الثورة المستمرة. تقييم ماركس وإنجلز أنه في ظل تلك الظروف التاريخية – في فترة ماقبل الاحتكار – كانت الأزمات المستمرة للرأسمالية مستحيلة، وأن نظرية الثورة المستمرة لا يمكن اعتبارها صالحة، دون الأخذ بعين الاعتبار حقيقة أن الرأسمالية قد دخلت فترة من الأزمات المستمرة في ظل ظروف الفترة الإمبريالية، لقد تعاملوا معها كما لو كانت صالحة في جميع الظروف، على شكل دوغماء. (تعاملهم هو الطابع الثابت للانتهازية اليمينية والاستسلامية).

هذا وبغض النظر عن أي تحليل ملموس للأوضاع الملموسة، تمسكوا بقدر ما يستطيعون بالأطروحات التي تصورها ماركس وإنكلس لبلدان أخرى في شروط تاريخية أخرى – أن الثورة ستبدأ في أكثر بلدان الرأسمالية تطوراً وتقدماً وأن الانتقال السلمي ممكن -. علماً أنّ الرأسمالية لم تكن رأسمالية زمن ماركس وإنكلس. لقد دخلت الرأسمالية عصر الأزمات المستمرة، عصر الثورات البروليتارية. إنّ نظرية الثورة المستمرة التي وصفها ماركس وإنكلس بأنها خاطئة في فترة ما قبل الاحتكار، أصبحت النظرية الماركسية للثورة في فترة الأزمات المستمرة للرأسمالية.

4.

العنف الثوري والانتقال السلمي

لم يلزم ماركس وإنكلس نفسيهما بما أسماه لينين مسائل الانتقال إلى الاشتراكية، أي بمسائل الشكل. لقد وصفوا فقط قاعدة عامة. وفقاً لهذه القاعدة؛ لكي تتمكن البروليتاريا من الإطاحة بالديكتاتورية البرجوازية، يجب أن تلجأ إلى العنف الثوري والقوة. إنّ العنف؛ على حد تعبير ماركس؛ قابلة لكل مجتمع قديم حامل بمجتمع جديد. هناك طريقة واحدة فقط للثورة الاجتماعية؛ وفقاً لماركس: “… لكن؛ هناك نظام التطورات الاجتماعية، فبعد الآن؛ في مثل هذا النظام لم تعد هناك طبقات وتناقضات طبقية، وبعد الآن؛ لن تكون هناك ثورات سياسية. حتى ذلك الحين؛ عشية تغييرها وتصحيحها من جميع أجزاء المجتمع، ستكون الكلمة الأخيرة للعلوم الاجتماعية: إما الصراع أو الموت أو الحرب الدموية أو الفناء”. (بؤس الفلسفة).

لكن ماركس وإنكلس كانا مشروطَين بعدم الوقوع في الدوغمائية في مواجهة تعدد الحياة، مقيّدان؛ كما تحدثوا عن انتقال سلمي؛ أي عندما يكون من الممكن تحقيق الهدف بسرعة أكبر وثقة أكبر من خلال التحريض السلمي.

تصور ماركس وإنكلس “الانتقال السلمي إلى الاشتراكية” كإمكانية لبريطانيا وأمريكا، اللتين كانتا مختلفتين تماماً عن تلك الموجودة في أوروبا السوداء ولهما خصائص مختلفة للغاية. وفقاً لماركس وإنكلس؛ تتمتع هذه البلدان بالخصائص التي تجعل الانتقال السلمي ممكناً. أولاً؛ ازدهرت الرأسمالية بقوة أكبر في هذه البلدان مقارنةً بقارة أوروبا. شكلت البروليتاريا غالبية السكان في هذه البلدان – في إنجلترا – وكانت منظمة تنظيماً جيداً في النقابات، وكان لها مستوى ثقافي أعلى من مستوى البروليتاريا في أوروبا السوداء. لقد فهمت الطبقة الرأسمالية مصالحها بشكل أفضل بكثير من نظرائها في أوروبا السوداء وكان لديها تقليد التسوية. بالإضافة إلى كل هذه الميزات؛ إنّ الدولة البرجوازية في هذه البلدان؛ أي البيروقراطية والنزعة العسكرية، كانت أكثر ضعفاً وهشة مقارنة بأوروبا السوداء. لهذه الأسباب؛ في إنجلترا وأمريكا؛ اللتان تمتلكان هذه الخصائص؛ يمكن للبروليتاريا أن تصل إلى السلطة من خلال البرلمان البرجوازي؛ أي من خلال آلية التصويت؛ “عن طريق شراء الرأسماليين”.

في مقالٍ كتبه في صحيفة نيويورك تريبونين؛ في أبريل 1851؛ قال ماركس حول هذا الموضوع:

“بالنسبة للطبقة العاملة البريطانية؛ فإنّ حق الاقتراع العام والسلطة السياسية يعنيان نفس الشيء. تشكل البروليتاريا غالبية السكان. إن الحصول على حق الاقتراع العام في إنجلترا سيشكل تقدماً أكبر بكثير من أية وسيلة اشتراكية مزعومة في قارة أوروبا؛ أي تقدماً نحو الاشتراكية؛ ستكون النتيجة الحتمية لكسب حق الاقتراع العام… الهيمنة السياسية للطبقة العاملة “.

5.

“القومية” والأممية

قبل أن ندخل في هذه المسألة؛ دعونا نتناول بإيجاز وجهات نظر ماركس وإنكلس حول القومية والأممية.

بينما كان ماركس وإنكلس يقدمان تحليلاً ملموساً للأوضاع الملموسة؛ نظروا إلى الثورة البروليتارية من وجهة نظر البلدان الرأسمالية ككل. ربط ماركس وإنكلس تحرير البروليتاريا وكادحي العالم قبل كل شيء بوصول الأممية البروليتارية إلى السلطة – الأممية الأولى – في أوروبا وأمريكا. لقد عارضوا دائماً تقيد النضال الثوري داخل حدود قومية ضيقة، ضمن إطار الأمة. وفقاً لهم؛ إنّ الهدف من النضال الثوري للبروليتاريا هو تجاوز الحدود التي رسمتها البرجوازية وتحقيق أممية الأوطان؛ البروليتاريون ليس لهم وطن، وطنهم أممي. (9)

“يعتقد البروليتاريون أنّ هناك نفس المصلحة في جميع البلدان؛ إنهم ضد نفس العدو، نفس الحرب؛ لقد تم بالفعل تجريد معظم البروليتاريين من الأحكام القومية المسبقة؛ جميع تحركاتهم إنسانية بشكل أساسي ومعادية للقومية. فقط البروليتاريون يمكنهم إلغاء القومية “. (ماركس)

لكن هذا؛ لا ينبغي تفسيره بمعنى أنّ البروليتاريا في كل بلد لا تؤسس سلطتها القومية من خلال محاربة برجوازيتها في إطار تلك الحدود. بالعكس تماماً؛ يجب تنظيم الطبقة العاملة في كل بلد بطريقة تمكنها من الاستيلاء على السلطة في بلدها أولاً وقبل كل شيء كطبقة، وتأسيس تكتيكاتها القصيرة والطويلة المدى على الظروف الاقتصادية، الاجتماعية والسياسية للبلد، والتي تقبلها كأساس للنضال، أي بناءً على تحليل متماسك للبنية الاجتماعية وعلى التقييم الصحيح للظروف والأوضاع.

من وجهة النظر هذه؛ فإن الصراع الطبقي للبروليتاريا هو صراع قومي من حيث شكله فقط، وليس من حيث محتواه.

في برنامج غوتا؛ المكتوب تحت تأثير لاسال “تعمل الطبقة العاملة أولاً في إطار الدولة القومية الحالية من أجل تحررها، مدركةً أنّ النتيجة الضرورية لجهدها؛ والتي هي الجهد المشترك لعمال جميع البلدان المتحضرة؛ ستكون هناك أخوة أممية بين الشعوب”، ماركس الذي ينتقد هذا النص لتناوله المسألة من وجهة نظر وطنية ضيقة؛ يقول ما يلي حول هذا الموضوع:

“على النقيض من المانيفستو الشيوعي وكل الاشتراكية التي سبقته، فهم لاسال الحركة العمالية من أضيق وجهة نظر وطنية. يتم اتباع مسار لاسال هذا في مشروع البرنامج، ويتم ذلك بعد عملية الأممية!

من الواضح أن الطبقة العاملة؛ يجب أن تُنَظَّم في بلدها كطبقة من أجل أن تكون قادرة على النضال، وكل بلد على حدة هو مسرح لهذا الصراع الطبقي. وبهذا المعنى؛ فإن نضال الطبقة العاملة وطنياً في طابعه، ليس من حيث محتواه، بل من حيث الشكل كما يقول المانيفستو الشيوعي “. (نقد برنامجَي غوتا وإرفورت)

هذه هي الطريقة التي يتعامل بها ماركس وإنكلس مع العلاقة بين الأممية و”القومية”.

6.

هل الثورة البروليتارية في بلد واحد، أو في جميع أنحاء أوروبا؟

في فترة ما قبل الاحتكار عندما لم يكن من الممكن بعدْ تحديد التطور الغير متكافئ للرأسمالية بشكل كامل؛ قال ماركس وإنكلس؛ أنّه من المستحيل ضمان انتصار الثورة في بلد واحد، وأنّه في أعقاب الأزمة العالمية مباشرة، يمكن ذكر التحرر المشترك للبروليتاريا في جميع البلدان الرأسمالية.

يستشهد ماركس بهزيمة البروليتاريا الفرنسية في يونيو 1849 كمثال على استحالة استكمال ثورة بروليتارية داخل حدود وطنية ضيقة:

“العمال… لقد اعتقدوا أن بإمكانهم إكمال ثورة بروليتارية داخل الحدود الوطنية لفرنسا. لكن شروط الإنتاج في فرنسا وتجارتها الخارجية؛ يتم تحديدها من خلال وضعها في السوق العالمية وقوانين هذا السوق. كيف كانت فرنسا ستفككهم دون نضال ثوري من شأنه أن يبتلع كل أوروبا ويكون له رد فعل على إنجلترا؛ طاغية السوق العالمية؟” (الصراعات الطبقية في فرنسا، الخط المائل عائد لنا)

في هذه السنوات؛ كما رأينا؛ يرى ماركس إنجلترا كـنقطة انطلاق للثورة العالمية – الثورة الأوروبية-. وفقاً لماركس؛ من أجل التوصل إلى حل للأزمة السياسية الحالية في فرنسا ولكي تصل البروليتاريا إلى السلطة؛ من الضروري أن تكون هناك أزمة تهز العالم بأسره، وأن تندلع ثورة بروليتارية في إنجلترا في هذه الفترة من الأزمة:

“…. يتوسع الصراع الطبقي داخل المجتمع الفرنسي إلى حرب عالمية تواجه فيها جميع الأمم بعضها البعض. أي أنه من الممكن الاقتراب من حل على نطاق عالمي من خلال استلام البروليتاريا في  إنجلترا؛ الأمة التي تهيمن على السوق العالمية؛ وبالتالي بـحرب عالمية”. (كارل ماركس، الصراعات الطبقية في فرنسا)

في النظريات الثورية لماركس وإنكلس الذين اعتقدوا أنه ستكون هناك ثورة مستمرة في قارة أوروبا بين 1847-1850؛ ثم قالوا أنّهم مخطئون في هذا الأمر؛ رأينا أنّ في عام 1850؛ سادت الحتمية الاقتصادية والاجتماعية، وليست المبادرة الثورية. وفقاً لهم؛ كان من المقرر أن تبدأ الثورة الأوروبية في إنجلترا؛ البلد الذي يتمتع بأعلى مستوى من تطور القوى المنتجة – الظروف الموضوعية الأكثر نضجاً-.

ماركس وإنكلس؛ اللذان استقرا في إنجلترا عام 1850؛ نظرا إلى إنجلترا بهذه الطريقة لفترة طويلة. (لقد رأوا أنها نقطة انطلاق الثورة العالمية). ولكن بعد خمسينيات القرن التاسع عشر؛ سرعان ما تحولت الحركة العمالية الإنجليزية إلى الإصلاحية البرجوازية-الصغيرة؛ متجهةً نحو مستنقع-النقابات؛ وتدريجياً بدأت الزمر المتوسطة؛ الأرستقراطية العمالية؛ تظهر بين العامل وصاحب العمل. عندما رأى ماركس وإنكلس أن الرأسمالية نجحت في توجيه هذا الصراع الطبقي للأرستقراطية بشكل أو بآخر؛ فقد فقدا الأمل في إنجلترا وحوّلوا كل انتباههم إلى قارة أوروبا. بعد القمع الوحشي للعامل الفرنسي في حركة كومونة باريس، ربط ماركس وإنكلس كل آمالهما على النضال في ألمانيا. ورأيا انتصاراً محتملاً للبروليتاريا في ألمانيا كـبداية للثورة العالمية.

خلاصة القول؛ وفقاً لماركس وإنكلس اللذان رَأَيَا الثورة الأوروبية ككل؛ فإن أول ثورة بروليتارية منتصرة كانت ستحدث في بلد أوروبي حيث كان مستوى تطور القوى المنتجة مرتفعاً إلى حد ما. أي؛ سادت الحتمية الاقتصادية والاجتماعية في النظريات الثورية لماركس وإنكلس. دور المبادرة الثورية أكثر ثانوية. لكن بالتوازي مع التحول التدريجي لمحور الثورة من الغرب – من إنجلترا – إلى الشرق، تزداد الأهمية النسبية للمبادرة الثورية. (لكن الجانب الحاسم دائماً هو الجانب الحتمي الاقتصادي والاجتماعي).

الفصل الثاني

النظرية الماركسية للثورة في فترة الإمبريالية

1.

تحول الرأسمالية التنافسية الحرة إلى الرأسمالية الاحتكارية

فترة الحرب الفرنسية والبروسية وما تلاها من حركة كومونة باريس، وحتى بداية القرن العشرين، خضعت الرأسمالية لتطور سلمي نسبياً. يمكننا أيضاً تسمية هذه الفترة بفترة السلم.

هذه المرحلة هي التي تُطور فيها الرأسمالية قوى الإنتاج، وتحفز وتضمن الازدهار بالمعنى البرجوازي، باختصار؛ إنها مرحلة تزداد فيها الرأسمالية قوةً. لكن؛ مثلما كل شيء يتطور ويصبح أقوى، تطورت الرأسمالية أيضاً خلال هذا الوقت وعززت ضعفها وتعفنها. بعبارة أخرى؛ بينما كانت الرأسمالية في ارتقاء، فكانت من ناحية أخرى تتحول بسرعة إلى التعفن والتطفل والاحتكار.

هذه الفترة هي فترة اختفت فيها الرأسمالية الفردية بسرعة، وسيطرت الاحتكارات والكارتلات والتروستات على الاقتصاد، إنها فترة تحولت فيها هيمنة رأس المال التنافسي الحر إلى هيمنة رأس المال المالي.

يقسم لينين عملية تحويل الرأسمالية التنافسية الحرة إلى رأسمالية مالية في ثلاثة أقسام: (يبدأ لينين هذه المرحلة من عام 1860).

“… يوضح المراحل الرئيسية في تاريخ الاحتكارات على النحو التالي: 1) السنوات 1860-1880، عندما وصل تطور المنافسة الحرة ذروته: في هذه الفترة؛ كانت الاحتكارات لاتزال على شكل نواة بالكاد يمكن تمييزها؛ 2) السنوات التي أعقبت أزمة عام 1873، والتي كانت فترة التطور الكبير للكارتلات؛ لكنها مازالت استثناءات؛ ليس لديهم وضع مستقر ومتين حتى الآن. إنها تظهر صيغة مؤقتة. 3) الارتقاء في نهاية القرن 19 وفترة أزمة 1900 – 1903؛ في هذه الفترة أصبحت الكارتلات واحدة من أسس الحياة الاقتصادية في مجملها ،وتحولت الرأسمالية إلى إمبريالية…” (الإمبريالية)

بعد الأزمة الاقتصادية العالمية 1857-1860، دخلت الرأسمالية فترة من الازدهار الكامل. أدخلت الاكتشافات والتطورات غير المسبوقة في العلوم والتقنية الرأسمالية في فترة من الارتقاء والتطور السريع.

بتطبيق أحدث اكتشافات العلوم والتقنيات على الصناعة، تطورت الرأسمالية بسرعة ووسعت الإنتاج على نطاق واسع بمرافق عملاقة. أصبح التعليم مركزياً ومكثفاً بسرعة. بدأت البنوك تتحول إلى احتكارات عملاقة تستثمر في الاقتصاد نفسه عن طريق التخلي عن واجباتها الوسيطة حتى ذلك الوقت بشكلٍ تدريجي.

نتيجة لهيمنة الكارتلات والتروستات على الحياة الاقتصادية، وخاصة مشاركة البنوك في الصناعة واستيلائها عليها، بدأت الاستثمارات الصغيرة والمتوسطة في الاختفاء بسرعة. من خلال نظام الشركات القابضة، أصبحت الاحتكارات الكبيرة المتحكمون الوحيدون بالاقتصاد. وهكذا دخلت الرأسمالية عصر جديد؛ عصر رأس المال المالي.

“تكاثف الإنتاج، وظهور الاحتكارات منه، واندماج الصناعة والبنوك واختلاطهم وتشابكهم: هنا تاريخ تكوين رأس المال المالي وجوهر هذا المفهوم (مفهوم رأس المال المالي)”. (لينين، الإمبريالية، أعلى مراحل الرأسمالية )

والنتيجة الطبيعية لهذا التطور هي أن التطور غير المتكافئ والمتقطع للرأسمالية، والذي لم يكن واضحاً في فترة المنافسة الحرة، أصبح أكثر وضوحاً.

حقيقة أن الاستثمارات وفروع الصناعة والبلدان المختلفة في تطور غير متكافئ ومتقطع هو حدث لا مفر منه في النظام الرأسمالي.” (المرجع نفسه) هذا التطور غير المتكافئ، جنباً إلى جنب مع الاحتكارات، خلق فائضاً هائلاً من رأس المال في الاقتصاد. وبما أن الرأسمالية لم تستطع تطوير الزراعة وفقاً للصناعة، وبما أن الإنتاج وفقاً للربح كان دائماً يخلق نقصاً في الاستهلاك – بسبب النمو السريع للجوع والفقر بين جماهير الشعب – فقد تم توجيه هذا الفائض بالضرورة إلى البلدان المستعمرة. إن السياسة الاستعمارية القديمة القائمة على تصدير السلع أفسحت المجال للاستعمار الإمبريالي القائم على تصدير رأس المال. كان العالم مقسماً بين حفنة من الاحتكارات.

“لقد قسمت البلدان المصدرة لرأس مال العالم فيما بينها، بالمعنى المجازي للكلمة. لكن رأس المال المالي يؤدي إلى تقسيم مباشر للعالم.” (المرجع نفسه). وجميع دول العالم  “تشكل الروابط في السلسلة العالمية لمعاملات رأس المال المالي”.

بينما كان يحدث كل هذا؛ كانت الابتكارات والاكتشافات غير المسبوقة حتى الآن في التقنية والعلوم (10) تهيئ البيئة المناسبة لإغلاق الاختلافات في المستوى بين البلدان الرأسمالية. في هذه البيئة؛ كان بلداً رأسمالياً أكثر تخلفاً يلحق ببلدٍ متقدمٍ  يشهد تطوراً تدريجياً ويريد تقسيماً “أكثر إنصافاً” للعالم المنقسم وفقاً لتوازن القوى الجديدة. سيؤدي هذا حتماً إلى حروب إعادة التقسيم بين الرأسماليين.

كان التطورغير المتوازن والمتقطع للرأسمالية في المرحلة الإمبريالية يعمق ويؤدي إلى تفاقم النزاعات بين الاحتكارات. والنتيجة الطبيعية لهذا هو أن الشروخ تنفتح في الجبهة الإمبريالية، وأن انتصار الاشتراكية ممكن من هذه الثغرات.

“من السهل أن نفهم لماذا الإمبريالية هي الرأسمالية المحتضرة، وأنها بوابة الاشتراكية؛ الاحتكار الذي نشأ من الرأسمالية هو الآن موت الرأسمالية. وهي بداية انتقالها إلى الاشتراكية“. (لينين)

وبهذا تُركت فترة تاريخية في الماضي. التاريخ يفتح صفحة جديدة. عنوان هذه الصفحة الجديدة هو فترة الثورات البروليتارية. لقد انتهت فترة “السلم”. كانت تلك هي الفترة التي انتقل فيها الثوريون البروليتاريون من تفسيرالعالم إلى تغييره، وانقلب كل شيء رأساً على عقب، وبدأت الرأسمالية تعاني من أزمة مستمرة وعامة.

لقد حانت الآن “اللحظة المنتظرة” التي اعتقدها ماركس وإنكلس أنها قد جاءت في فترة 1840-1850.

2.

التحريف “الأرثوذكسي” للماركسية والنظرية اللينينية للثورة  (1)

عندما تحولت المنافسة إلى احتكار فإنّ المنظمة الأممية في نهاية هذه الفترة، هي الأممية الثانية. في هذه الفترة من “السلم”؛ عندما وفرت الرأسمالية الرخاء بالمعنى البرجوازي، حققت أحزاب الأممية الثانية في أوروبا نجاحاً كبيراً من خلال الوسائل البرلمانية. وخاصة في ألمانيا، حقق حزب العمال، انتصارات انتخابية ضخمة. (حصل على أكثر من 50٪ من الأصوات في العديد من الدوائر الانتخابية).

هذه الفترة؛ كما في كل فترات السلم، هي فترة ازدهرت فيها الميول اليمينية والاستسلامية عند اليسار. أذهلت الانتصارات البرلمانية التي تحققت جميع أحزاب الأممية الثانية. اعتقاداً منهم أن هذه الفترة ستستمر دائماً على هذا النحو، فلم يكلفوا أنفسهم عناء الاستعدادات لفترة الحرب.

لخص ستالين استسلامية الأممية الثانية على النحو التالي:

“هذه الفترة هي فترة تطور هادئ نسبياً للرأسمالية، حيث لم يكن أمام التناقضات الكارثية للإمبريالية الوقت لإظهار نفسها؛ وتطورت الإضرابات الاقتصادية للعمال والنقابات العمالية بشكل طبيعي إلى حد ما؛ لقد كانت نوعاً من فترة ما قبل الحرب التي حقق فيها النضال الانتخابي والمجموعات البرلمانية نجاحات مذهلة، وتمت الإشادة بأشكال النضال العلني بالثناء، وكان يعتقد أن الرأسمالية ستهزم من خلال العلنية. باختصار؛ هذه الفترة؛  كانت فترة تثمين أحزاب الأممية الثانية لأنفسهم ولم يرغبوا في التفكير بجدية في الثورة، و التعليم الثوري للجماهير”. (المبادئ اللينينية).

في السنوات الأخيرة من حياته، وبعد أن رأى إنكلس هذا التدهور السيئ، حاول تحذير ويلهلم ليبكنخت وكاوتسكي بشأن إصلاحية الأممية الثانية. في نقده لبرنامج إرفورت عام 1891، انتقد إنكلس بشدة الأوهام الاستسلامية والبرلمانية لهذا “الانتقال السلمي”.

لكن كل انتقادات وتحذيرات إنكلس ذهبت سدى وأثبتت عدم جدواها: فقد كانت أحزاب الأممية الثانية غارقة تماماً في مستنقع  البرلمانية. كان هذا هو وضع اليسار الأوروبي في عام 1900، في بداية عصر الثورات البروليتارية.

إن أحزاب الأممية الثانية التي كانت في حالة سكر من الانتصارات الانتخابية التي تحققت في فترة ارتقاء الرأسمالية التي كانت الرأسمالية تتطورفيها سلمياً، لم تفهم أبداً هذه الفترة الجديدة من الرأسمالية. لقد اعتقدوا أن “فترة السلم” المؤقتة هذه ستستمر.

وبغض النظرعن التحليل الملموس للأوضاع الملموسة، أخذت هذه الأحزاب كـ دوغماء تنبأ بها ماركس وإنكلس في فترة ما قبل الاحتكار، متناسين أن الماركسية دليلاً للعمل وتصبح ثرية وتتعمق مع التاريخ. حتى أنهم عمّموا ما قاله ماركس وإنكلس عن الظروف الاستثنائية. لقد سقطوا في دوغمائية كاملة.

إن الحفاظ “الأرثوذكسي” على مقترحات ماركس وإنكلس لفترة ما قبل الاحتكار، أي تجميدها، تناسب وضعهم الموضوعي. وكانت هذه الدوغمائية في الوقت نفسه غطاءً أيديولوجياً لخيانتهم وجبنهم. كانوا يحاولون تطبيق نظرية الثورة، ونمط العمل والتكتيك الذي توقعه ماركس وإنكلس “لفترة التطور”، فيما يتعلق بفترة إرتقاء الرأسمالية التي تطورت فيها للتو القوى المنتجة ولم تتناقض معها، إلى فترة الأزمات العامة للرأسمالية، إلى مرحلة الثورات الاشتراكية.

ألم يقل ماركس وإنكلس  إن الثورة البروليتارية لا يمكن أن تحدث في بلد واحد، داخل حدود قومية ضيقة؟ ألن تندلع الثورة، وفقاً لمقترحات ماركس وإنكلس، في البلدان الرأسمالية المتقدمة “بشكل متزامن”، في شكل ثورة عالمية؟ ألن تبدأ الثورة البروليتارية الأولى في بلد كانت فيه القوى المنتجة هي الأكثر تطوراً، والظروف الموضوعية هي الأكثر نضجاً، والديمقراطية والمستوى الثقافي للبروليتاريا في أعلى مستوياتها؟ لذلك؛ فإن كل محاولة ثورية يتم القيام بها في بلد ذو مستوى منخفض من تطورالقوى المنتجة محكوم عليها بالهزيمة، تماماً مثل هزيمة حزيران 1849، وتماماً مثل هزيمة كومونة باريس. في هذا الصدد، كان من الضروري انتظار نضج القوى المنتجة.

علاوة على ذلك؛ وبعيداً عن تحويل ما طرحه ماركس وإنكلس إلى دوغمائية لظروف تاريخية أخرى، قامت هذه الأحزاب أيضاً بتعميم ما تصوراهما للأوضاع “الاستثنائية”. من خلال تعميم قيود ماركس المشروطة بأنه في إنجلترا، حيث كانت غالبية السكان هي البروليتاريا، كان من الممكن للثورة البروليتارية أن تنتصر سلمياً، لقد جادلوا بأنه كي تقوم البروليتاريا بالثورة، من الضروري أن تشكل غالبية السكان. وفقاً لهم؛ ستشكل البروليتاريا غالبية السكان وستصل إلى السلطة بأغلبية الأصوات.

هكذا فسرت أحزاب الأممية الثانية؛ ماركس وإنكلس في عصر الثورات البروليتارية.

في حين أن المستسلمون في الأممية الثانية قاموا بإضفاء الطابع الدوغمائي على الماركسية بهذه الطريقة، فإن لينين؛ الذي قبل الماركسية كدليل للعمل، تابع عن كثب عملية تحويل الرأسمالية إلى إمبريالية من خلال إجراء تحليلات ملموسة للأوضاع الملموسة. (كتاب لينين الإمبريالية: أعلى مرحلة للرأسمالية في عام 1916؛ لكن جميع التحليلات التي أجراها لينين منذ 1900 تستند إلى تحليل مباشر لتناقضات الفترة الإمبريالية).

وفقاً للينين؛ لم تكن تلك الفترة هي فترة ماركس وإنكلس. لقد دخلت الرأسمالية صفحة جديدة. لقد دخلت الرأسمالية الآن فترة الأزمة المستمرة والعامة، فترة الاحتضار، التي اعتقدها ماركس وإنكلس أنها دخلت فترة مابين 1947-1950. ولينين؛ الذي لاحظ بشكل صحيح التطور غير المتكافئ والمتقطع للرأسمالية، والذي أصبح أكثر وضوحاً في فترة الاحتكار، استنتج من هذا إمكانية أن انتصار الاشتراكية في بلد واحد كان ممكناً:

“… إن تطور الرأسمالية يسير بشكلٍ غير منتظم على الإطلاق في بلدان مختلفة. لا يمكن أن يكون الأمر خلاف ذلك في نظام الإنتاج السلعي. ويترتب على ذلك حتماً ولا يمكن إنكاره بأن الاشتراكية لا يمكن أن تنتصر في جميع البلدان في نفس الوقت. ستنتصر في بلد واحد أوعدة بلدان أولاً، بينما ستبقى البلدان الأخرى لفترة من الوقت في الفترة البرجوازية أو ما قبل البرجوازية”. (البرنامج الحربي للثورة البروليتارية، الاشتراكية والحرب).

يقول لينين بأن “النسبة غير المتكافئة من التطور الاقتصادي والسياسي هي القانون المطلق للرأسمالية. ويترتب على ذلك أن الاشتراكية ممكنة أولاً في عدد قليل جداً من البلدان الرأسمالية أو حتى في بلد واحد”. ويذكر اقتراح ماركس وإنكلس بأن “الثورة ستندلع فجأةً في جميع البلدان” قد عفا عليه الزمن في الفترة الإمبريالية. وفقاً للينين، فإن الأحزاب والمتحدثين باسمها في الأممية الثانية، الذين يكررون بشكل دوغمائي هذا الاقتراح القديم لماركس وإنكلس؛ لا يفعلون شيئاً سوى خدمة البرجوازية:

“نحن نعرف كل أنواع أولئك الذين يعتبرون أنفسهم أذكياء جداً، وعلاوة على ذلك أولئك الاشتراكيين، الذين يدّعون أنه لا يمكن الاستيلاء على السلطة من خلال النضال ما لم تندلع الثورة فجأة في جميع البلدان. هؤلاء الرجال لا يدركون أنهم مع هؤلاء الثرثارين قد أداروا ظهورهم للثورة وانحازوا إلى جانب البرجوازية. إن توقع قيام الطبقات العاملة بثورة على الصعيد الدولي يعني الانتظار والجمود. هذا هراء“. (انظرالطبعة الرابعة، المجلد 27، ستالين نقلاً و مقتبساً من لينين: انحرافات اليمين واليسار).

وفقاً لللينينية؛ فإن تدقيق ما إذا كانت الثورة البروليتارية كافية لتطوير القوى المنتجة أم لا واعتبارها مسألة تطور داخلي لذلك البلد، قد انتهى الآن. في الفترة الإمبريالية؛ لا تعتمد شروط الثورة في أي بلد على مستوى تطور القوى المنتجة. لأنه من خلال تدمير الاكتفاء الذاتي الاقتصادي الإمبريالي، قد جعلت الاقتصادات القومية الخاصة حلقات في سلسلة تسمى الاقتصاد العالمي. ومن وجهة نظر النظام ككل، توجد شروط موضوعية للثورة في جميع البلدان . لذلك؛ من الخطأ توقع حدوث الثورة البروليتارية الأولى في بلد تكون فيه الرأسمالية هي الأكثر تطوراً وحيث مستوى الديمقراطية والثقافة هو الأعلى. إن اقتراح ماركس وإنكلس هذا؛ الذي كان صحيحاً حتى فترة ما قبل الاحتكار، قد عفا عليه الزمن الآن في الفترة الإمبريالية. ووفقاً لللينينية، فإن الثورة البروليتارية الأولى لن تحدث في هذا البلد أوذاك، حيث تكون الرأسمالية والديمقراطية أكثر تطوراً، ولكن سيتم في البلد الذي تكون فيه السلسلة الإمبريالية أضعف:

“حيثما تكون فيها السلسلة الإمبريالية أضعف، تنقسم جبهة رأس المال. لأن الثورة البروليتارية هي نتيجة كسر السلسلة الإمبريالية العالمية، ومن الممكن جداً أن يكون البلد الذي بدأت الثورة فيه أقل تطوراً من البلدان الأكثر تقدماً بالمعنى  الرأسمالي، ومع ذلك؛ فإنه ممكن أن يكون ضمن إطار الرأسمالية”. (ستالين: مبادئ اللينينية).

إن نظرية “الانتقال السلمي” التي طرحتها أحزاب الأممية الثانية هي؛ وفقاً للينين؛ نظرية خاطئة أيضاً. ومع دخول الرأسمالية فترة من احتضارها، عززت بيروقراطيتها ونزعتها العسكرية.الثورة الاجتماعية لها طريق واحد فقط في الفترة الإمبريالية، وهو تحطيم “الآلية البيروقراطية والعسكرية عن طريق العنف”. إن أطروحة الانتقال السلمي التي تصورها ماركس وإنكلس لبريطانيا وأمريكا في فترة ما قبل الاحتكار عفا عليها الزمن وغير صالحة في الفترة الاحتكارية.

يقول لينين حول هذا الموضوع:

“اليوم؛…  تحديد ماركس هذا؛ غير صالح. مثل أمريكا وإنجلترا، هما أعظم وآخرالممثلين للحرية الأنكلو-ساكسونية (غياب النزعة العسكرية والبيروقراطية) في العالم، المؤسسات العسكرية والبيروقراطية التي جعلت كل شيء خاضعاً لها وكل شيء تحت ثقلها غرقت بالكامل في المستنقع الأوروبي المليء بالدماء والقذارة، الآن في إنجلترا كما هوالحال في أمريكا، “الشرط الأول لجميع الثورات الشعبية الحقيقية” (…) هو كسر وتحطيم  جهازالدولة السائد”. (الدولة والثورة)

في النظرية اللينينية للثورة؛ من الممكن كسر السلسلة الإمبريالية في بلد تكون فيه الطبقة العاملة ضعيفة ويشكل الفلاحون الغالبية العظمى من السكان. وهي تقوم على أساس إدارة الطاقات الثورية للفلاحين تحت قيادة البروليتاريا وحزبها.

” … وكما هو معروف؛ فإن لينين قد أكمل وطوّر نظرية ماركس في علاقة البروليتاريين بالفلاحين”. (ج. ديميتروف، أهم فترات  تطور الحزب، نحو الجمهورية

إن دور المبادرة الثورية في نظرية لينين للثورة (بسبب خصوصيات الفترة الإمبريالية) أكثر ثقلاً بكثير مما هو عند ماركس وإنكلس. في المرحلة الإمبريالية؛ وبما أن الأسس المادية للثورة جاهزة؛ فإن الأمر متروك للمبادرة الثورية لأخذ زمام المبادرة في الوقت المناسب لحل المشكلة.

مع ازدياد دور الفلاحين في النظرية الثورية للاشتراكية العلمية وانتقال مركز الثورة إلى الشرق؛ يظهر الجانب الإرادي في المقدمة.

وبما أن أحزاب الأممية الثانية لم تكن لديها أي نية للقيام بالثورة، فلم يكن لديها أي مصلحة في توجيه الإمكانات الثورية للفلاحين، وكسب الفلاحين إلى صفوف البروليتاريا. لقد أجلوا الثورة إلى وقت غير معروف عندما يصبح غالبية الفلاحين بروليتاريين، وتشكل البروليتاريا غالبية السكان. وفقاً للتفكير “الأرثوذكسي” للأممية الثانية؛ من الضروري اعتبار الفلاحين ككل داخل جيش البرجوازية. وفقاً لهذه الفكرة؛ “الفلاحون بالكامل ليسوا إلا مجرد مؤمّني المنتجات الغذائية” ومصالحهم تتعارض مع مصالح البروليتاريا. إن رسم المجتمع بـ لونين متناقضين بهذه الطريقة ليس سوى المفهوم “الأرثوذكسي” الكلاسيكي لانتهازية الأممية الثانية.

بنى المستسلمون في الأممية الثانية جميع أطروحاتهم الانتهازية، التي لخصناها بإيجاز أعلاه، على ماركس وإنكلس. لم يفهموا قَطْ ما هو مؤكد ومسموحٌ في الماركسية. لقد قاموا بتجميد الماركسية، تاركين جانباً جوهر الماركسية – التحليل الملموس للأوضاع الملموسة – على حد تعبير ستالين.

في السنوات الأولى من الفترة الإمبريالية، كان لينين والبلاشفة هم وحدهم الذين فصلوا جوهر الماركسية عن ألفاظها، وحافظوا على جوهر الماركسية، وعمّقوها وأغنوها في مواجهة حقائق الحياة الجديدة.

في 1900؛ قال لينين:

“نحن لانرى نظرية ماركس كاملة مكملة لا تتغير.على العكس من ذلك؛ نعتقد أن هذه النظرية قد وضعت فقط أحجارالزاوية للعلم؛ إنْ كان الاشتراكيون لا يريدون أن تتغلب عليهم الحياة؛ فعليهم تعميق هذا العلم بكل الطرق الممكنة. بـ رأينا؛ من الضروري بشكل خاص للاشتراكيين الروس دراسة نظرية ماركس بشكل مستقل ودقيق”.

3.

التحريف “الأرثوذكسي” للماركسية والنظرية اللينينية للثورة (2)

النظرية اللينينية للثورة المتواصلة والمَناشِفة

وفقاً للينين؛ الذي لاحظ تحول الرأسمالية إلى إمبريالية في بداية القرن العشرين؛ فإن اللحظة التي اعتقدوا أنها جاءت بين فترة 1847-1850 لماركس قد حانت الآن “لحظة النضال العظيم”. الآن “الحرب بين البرجوازية والبروليتاريا مطروحة على جدول الأعمال في جميع أنحاء أوروبا” وأعلن لينين أنّ نظرية الثورة المستمرة التي تنبأ بها ماركس وإنكلس لألمانيا في عام 1850هي نظرية ثورة البروليتاريا الروسية.

في الفترة 1840-1850؛ كان ماركس وإنكلس مخطئون حقاً في نظرية الثورة هذه. لأنهم اعتقدوا أنه مع أزمة التجارة العالمية عام 1847، دخلت الرأسمالية فترة الكساد العام والمستمر. علماً؛ كانت الرأسمالية في فترة صعودها في ذلك العصر. وبالتالي كان من المستحيل أن تكون هناك ثورة بروليتارية في أوروبا. لهذا السبب؛ حتى لو كانت البروليتاريا قد قادت الثورة الديمقراطية في ألمانيا، فإن البروليتاريا لم تكن قادرة على دعم الثورة وجعلها مستمرة، لأنه لم تكن هناك ثورات بروليتارية مندلعة متزامنة في أوروبا. ولكي تنتقل البروليتاريا في ألمانيا من المرحلة الديمقراطية البرجوازية إلى مرحلة الثورة الاشتراكية دون توقف؛ كان من الضروري مساعدة البروليتاريا المنتصرة، التي استولت على السلطة في مختلف البلدان الأوروبية.

علماً أنّه؛ في الوقت الحالي (في الفترة الإمبريالية) دخلت الرأسمالية فترة من الأزمات المستمرة. إن الظروف الموضوعية لوصول البروليتاريا الأوروبية إلى السلطة مهيأة للنظام بأكمله. هذا هو السبب في أنّ نظرية الثورة هذه، التي تخلى عنها ماركس وإنكلس بعد عام 1856، هي النظرية الوحيدة والصحيحة لثورة البروليتاريا في دولة مثل روسيا التي هي في فترة الأزمات العامة والمستمرة للرأسمالية، وعلى وشك ثورة ديمقراطية برجوازية متأخرة.

أي؛ وفقاً للينين؛ كان وضع روسيا القيصرية في بداية القرن العشرين مثل الوضع في ألمانيا في السنوات (1840-1850) عندما كان ماركس وإنكلس ينتظران ثورة أوروبية.  فيما يتعلق بهذا التشابه؛ يقول ستالين:

“ما حدث لروسيا ولينين؛ حدث لألمانيا ولماركس وإنكلس بين 1840-1850“. (مبادئ اللينينية)

مرة أخرى؛ يلفت ستالين الانتباه إلى ما ورد في المانيفستو؛ من أنّ الثورة الديمقراطية البرجوازية التي ستحدث في ألمانيا ستكون بداية الثورة البروليتارية، ويقول:

“يمكن قول الشيء نفسه عن روسيا في أوائل القرن العشرين. لكن؛ كانت روسيا في نقطة أعلى من التطور من ألمانيا في 1840-1850.  كان على روسيا أن تقوم بهذه الثورة في إطار أوروبا المتقدمة وبروليتاريا أكثر تطوراً مما كانت عليه في ألمانيا (ناهيك عن إنجلترا وفرنسا)؛ وأظهر كل شيء أن هذه الثورة ستكون خميرة وبداية الثورة البروليتارية.

في وقت مبكر؛ في عام 190؛ في الأيام التحضيرية للثورة الروسية؛ لينين (ما العمل؟) لم يكن من قبيل المصادفة أنه كتب هذه الكلمات التي تنبأت بالمستقبل في عمله.

“لقد واجهنا التاريخ (أي الماركسيين الروس، ج. ستالين) بمهمة عاجلة، وهي الأكثر ثورية من بين جميع المهام التي يجب إنجازها على الفور، وهي المهمة التي تواجهها البروليتاريا في أي بلد. إن إنجاز هذه المهمة، وتدمير أقوى معقل ليس فقط للرجعية الأوروبية، ولكن أيضاً للرجعية الآسيوية، يجعل البروليتاريا الروسية طليعة البروليتاريا الثورية العالمية”. (ج: الرابع، المبادئ اللينينية)

السبب في أن البروليتاريا الروسية أصبحت طليعة البروليتاريا الثورية العالمية؛ هو أن روسيا القيصرية قد احتضنت جميع التناقضات التي وصلت إلى الذروة، وبعبارة أخرى؛ فهي الحلقة الأضعف في السلسلة الإمبريالية.

“لهذا السبب كان على روسيا أن تكون موضوع الصراع الذي من شأنه أن يصل إلى نهاية مؤكدة لتناقضات الإمبريالية. ليس فقط لأن هذه التناقضات ظهرت في روسيا بطريقة مشينة بشكل خاص، ولا تطاق بشكل خاص؛ ليس فقط لأن روسيا شكلت الدعم الرئيسي للإمبريالية الغربية التي ربطت رأس المال المالي للغرب بمستعمرات الشرق؛ ولكن أيضاً لأنه في روسيا فقط تم العثور على القوة الحقيقية القادرة على حل تناقضات الإمبريالية بطريقة ثورية. لذلك؛ كان على الثورة في روسيا أن تكون ثورة بروليتارية [11] وكان عليها أن تأخذ طابعاً ثورياً منذ اليوم الأول لتطورها، وبالتالي هز الإمبريالية من أساسه.” (ستالين، المبادئ اللينينية)

كانت النتيجة الطبيعية لهذا التقييم هي أن البروليتاريا الروسية كانت ستشن حربين مختلفتين في فترة واحدة:

“الحرب بين البرجوازية والبروليتاريا مدرجة على جدول الأعمال في جميع أنحاء أوروبا. لقد وصلت هذه الحرب بالفعل إلى روسيا منذ زمن. في روسيا المعاصرة؛ ليست هناك قوتان في حالة حرب تعطيان الثورة محتواها، بل هناك حربين اجتماعيتين غير متجانستين ومختلفتين. يجب خوض الحرب الأولى في حضن النظام الاستبدادي (الأوتوقراطي) الحالي  الذي يستندعلى العبودية؛ والأخرى هي الحرب التي زلدت أمام أعيننا، والتي تجري داخل النظام الديمقراطي البرجوازي في المستقبل. الأولى هي نضال الشعب بأسره من أجل الحرية (من أجل حرية المجتمع البرجوازي)، من أجل الديمقراطية، أي من أجل السيادة المطلقة للشعب. والأخرى هي الصراع الطبقي للبروليتاريا ضد البرجوازية من أجل التنظيم الاشتراكي للمجتمع.

لذا؛ فإن المهمة الصعبة والمهيمنة المتمثلة في شن حربين بنفس الوقت، وهما مختلفتان ومتزامنتان تماماً في طابعهما و أهدافهما، وفي تكوين القوى الاجتماعية القادرة على اتخاذ موقف حاسم في القتال؛ تقع على عاتق الاشتراكيين.” (لينين، الاشتراكية والفلاحين، تحالف العمال-الفلاحين) (12)

كان هذا هو منظور الثورة البلشفية عشية الثورة البرجوازية الروسية عام 1905. (13)

يمكننا تلخيص السمات المميزة لهذا المنظور على النحو التالي:

1) النظرية اللينينية للثورة المتواصلة هي النظرية الثورية لفترة احتضار الرأسمالية. لا تنطبق هذه النظرية فقط على روسيا القيصرية في بداية الأزمة العامة للرأسمالية، بل أيضاً على تلك البلدان المستعمرة وشبه-المستعمرة التي لم تتمكن من الدخول في مجمل مرحلة التطور الرأسمالي الإمبريالي بأكمله.

2) تستند النظرية اللينينية للثورة المستمرة، متقدمة على نظرية ماركس عن الثورة المستمرة؛ على توجيه الإمكانات الثورية للفلاحين نحو الثورة. وفقاً لهذه النظرية؛ يمكن للبروليتاريا قيادة جيش الفلاحين في الفترة الإمبريالية. ومهمة البروليتاريا التي تريد أن تجعل الثورة متواصلة؛ هي قيادة هذا الجيش.

3) من أجل تحويل الثورة الديمقراطية البرجوازية في بلد مثل روسيا القيصرية إلى ثورة اشتراكية، فإن مساعدة البروليتاريا الأوروبية التي وصلت إلى السلطة أمر ضروري.

كان المنظور الثوري للفصيل المنشفي لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي، الفرع الروسي للأممية الثانية، تماماً عكس وجهة نظر البلشفي، كنتيجة طبيعية لمفهوم الأممية الثانية للثورة الرسمية.

وفقاً للمفهوم “الأرثوذكسي” للأممية الثانية؛ كانت الثورة البروليتارية الأولى ستندلع في بلد كانت فيه الرأسمالية والديمقراطية في أوج تطورهما، حيث تشكل البروليتاريا غالبية السكان. والثورة التي اندلعت في هذا البلد ستنتشر إلى بلدان أخرى. وهكذا ستكون الثورة العالمية متزامنة.

وفقاً للمناشفة الذين انبثقوا عن هذه الفكرة؛ لم يكن من المعقول أن تقود البروليتاريا الثورة الديمقراطية في روسيا، لأن الظروف الموضوعية لاندلاع الثورة البروليتارية العالمية في 1900 لم تكن ناضجة، وحتى الكوادر القيادية اللازمة للبروليتاريا بعد استيلاء البروليتاريا على السلطة لم تكن قد تشكلت بالكامل بعدْ. وإلى أن تنضج هذه الظروف؛ يجب على البرجوازية الليبرالية الروسية أن تقوم بالثورة البرجوازية، ويجب على البروليتاريا دعمها. حتى تأتي اللحظة المنتظرة، كانت البروليتاريا الروسية “في بيئة ديمقراطية على النمط الغربي”، تستجمع قواها من خلال طريقة النضال البرلماني.

النظرية البلشفية للثورة المستمرة هي نظرية سخيفة وأناركية (فوضوية). تنطلق هذه النظرية بناءً على المفاهيم الخاظئة لماركس وإنكلس بين عامي 1840-1850. ألم يتخلّى ماركس وإنكلس فيما بعد عن هذه النظرية قائلين أنهما كانا مخطئَين في هذا الموضوع؟ ألم يدين ماركس هذه النظرية بتعريفه للثورة في مقدمة كتابه “المساهمة في نقد الاقتصاد السياسي” الذي نشره عام 1859؟

لا يمكن للبروليتاريا أن تتعامل إلاّ مع ثورة واحدة. إنها الثورة الاشتراكية التي هي ثورتها. لهذا؛ من الضروري أن تكون البرجوازية قد صنعت ثورتها، وطورت الإنتاج الرأسمالي. لا يمكن أن يكون هناك موضوع قوة بروليتارية حتى تنضج القوى المنتجة، وحتى تُشكل البروليتاريا غالبية السكان، وحتى يستقر المجتمع والنظام البرجوازيان في روسيا.

هذه هي نظرية الثورة التي تنبأت بها أو توقعتها المناشفة للبروليتاريا الروسية.

كما سنتناول في الفصل التالي كلتا النظريتين اللتان كانتا أساس مفهوم الحزب وطريقة العمل اللذان اتبعهما البلشفية والمنشفية.

من الواضح أن أولئك الذين يفسرون العالم بشكل آخر، فإن وسائل التغيير ستكون متغيرة أيضاً!

4.

مفاهيم حزب البلاشفة والمناشفة

تستند النظرية اللينينية للثورة المستمرة؛ في بلد ذو بروليتاريا ضعيفة، إلى المبادرة الثورية باستخدام وسائل مختلفة للثورة – وأهمها الإمكانات الثورية للفلاحين-.

الفرق بين الطابع الطبقي لمرحلة تاريخية معينة ودور الطبقات في تلك المرحلة هو أساس هذه النظرية. هذا الاختلاف هو النتيجة الطبيعية لهيمنة الجانب الإرادي في النظرية اللينينية للثورة.

في النظريات الثورية لماركس وإنكلس بسبب الظروف الملموسة في ذلك الوقت، يسود الجانب الحتمي الاقتصادي والاجتماعي على الجانب الإرادي. من ناحية أخرى؛ في النظرية اللينينية؛ يسود حسم السياسة على الاقتصاد. وبمعنى آخر؛ فإن المبادرة الثورية هي الأساس. (لكن بما أنه أساسي لا يعني أنه يحدده لوحده).

“السياسة هي التعبير المُرَكّز عن الاقتصاد. من المستحيل عدم قبول أولوية السياسة على الاقتصاد. التفكير بخلاف ذلك هو نسيان أبجديات الماركسية”. (لينين، المجلد 42، الطبعة الفرنسية)

إن فكرة إعطاء الأولوية للمبادرة الثورية والسياسة في النظرية اللينينية للثورة تشكل أيضاً المفهوم اللينيني للحزب.

وفقاً للينين؛ للبروليتاريا نوعان من التنظيمات: التتنظيم العمالي وتنظيم الثوريين.

“يجب أن تكون المنظمة العمالية أولاً وقبل كل شيء منظمة مهنية، ويجب أن تكون علنية وبعيدة عن السرية  قدر الإمكان. ومن ناحية أخرى؛ يجب على تنظيم الثوريين، أن يحتضن أولاً وقبل كل شيء؛ أولئك الأشخاص الذين مهنتهم الرئيسية هي العمل الثوري…” (لينين، ما العمل)

وفقاً لهذا المفهوم؛ يجب أن يتكون حزب البروليتاريا بالكامل من الثوريين المحترفين. الحزب هو منظمة محاربة من الثوريين المحترفين. هؤلاء الثوريون المحترفون هم  “أولئك الذين قطعوا كل الروابط مع النظام القائم في المجتمع، والذين لم يكرسوا لياليهم الفارغة فحسب، بل كرسوا حياتهم كلها للثورة، والذين مروا بالحد الأدنى من التكوين الماركسي، والذين يميلون إلى التخصص في مواضيع معينة”. وفي الحزب الذي كان يتألف في البداية من هؤلاء الثوريين المحترفين، لا يجوزالتمييزعلى أساس الأصل الطبقي: “نظراً لخصوصية مثل هذه المنظمة، يجب محو جميع الفروق بين العمال والمثقفين، وخاصة بين نفس المهن المنفصلة. من الواضح أنه لا ينبغي إبقاء هذه المنظمة واسعة جداً ويجب أن تكون سرية قدر الإمكان“. (لينين، ما العمل).

كما يُرى؛ في البداية تكون العلاقات بين الحزب والطبقة موضوعية نوعاً ما. يعني هو أيديولوجي. أساس قيادة الحزب أيديولوجي. المهم في البداية؛ على حد تعبير لينين؛ ليس أن أعضاء الحزب هم عمال أو طلاب، بل أنهم ثوريون محترفون. من الضروري أن تمثل المنظمة النضالية التي شكلها الثوريون المحترفون بموضوعية؛ الإرادة الثورية للبروليتاريا. وسينتقل الوعي إلى البروليتاريا من الخارج من خلال هذه المنظمة. لأن هذه المنظمة تمثل الحركة الاشتراكية. “الديمقراطية الاشتراكية الثورية تمثل اليعقوبيين، المرتبطين ارتباطاً وثيقاً بتنظيم البروليتاريا [أي التنظيم المهني]”. (لينين)

هذه المنظمة منظمة شبه عسكرية. بعبارة أخرى؛ في مبدأ المركزية الديمقراطية، يسود الجانب المركزي، وليس الجانب الديمقراطي. (هذا ينطبق على جميع البلدان التي ليست ديمقراطيات برجوازية).

“إن المبادئ التنظيمية للاشتراكية الديمقراطية الثورية هي بنية هرمية ضد الديمقراطية، أو بعبارة أخرى؛ المركزية ضد المحلية. هذه هي المبادئ المعاكسة تماماً لتلك التي ينادي بها الأياميون. المبدأ الذي يدعو إليه الأخيرِين هو أن يسعوا إلى الصعود من القاعدة إلى القمة، وصولاً إلى أبعد حكم ذاتي وديمقراطية. لكن بما أن الاشتراكية الديمقراطية الثورية تبادر إلى النضال من أجل السلطة من القمة، فإنها تدافع عن حقوق المنظمة المركزية وبسط سلطتها الكاملة في مواجهة الانقسامات”. (لينين، خطوة إلى الأمام، خطوة إلى الوراء)

هذه هي طبيعة ووظيفة المنظمة الحزبية التي قال عنها لينين: “أعطونا منظمة حرب، وسوف نقلب روسيا رأساً على عقب”.

ومع ذلك؛ لكي يصبح الحزب الذي تم تأسيسه على هذا النحو وفقاً لمبادئ المنظمة الحربية؛ منظمة حرب، يجب أن يحتضن الجماهير البروليتارية الواسعة في النضال.

في البداية؛ لم يكن من الضروري أن يكون العمال في الأغلبية. الشيء المهم هو أنه مهما كانت حالة الأصل الطبقي، فإن المنظمة تتكون من ثوريين محترفين. لكن في المرحلة الثانية؛ من الضروري أن يشكل العمال أغلبية مطلقة. (14) لينين الذي قال في عام 1902 إن الحزب يجب أن يكون منظمة أقلية ضيقة، وقال إن “مئات الآلاف من العمال” يجب أن يتواجدوا ويشاركوا في التنظيم الحزبي في عام 1905.

“في المؤتمر الثالث أعربت عن رغبتي في أن يكون هناك ثمانية عمال في لجان الحزب مقابل كل اثنين من المثقفين. الآن هذا أيضاً عفا عليه الزمن. نرغب الآن بأنّ مقابل كل مثقف يلتزم بالاشتراكية الديمقراطية، يجب أن يكون هناك بضع مئات من العمال الاشتراكيين الديمقراطيين في منظمات الحزب”. (نقلا عن؛ كليف، روزا لوكسمبورغ)

عندما يصبح الحزب حزباً جماهيرياً سياسياً للبروليتاريا، وقتها يمكن القول إن الحزب هو منظمة حرب. وأعضاء هذه المنظمة الحربية لهم طابع مزدوج:

“جادل لينين بأن هيكل تنظيم الحزب وأساسه يجب أن ينقسم إلى  قسمين: أ) كادر منظم بإحكام من عمال الحزب القياديين، وعلى رأسهم الثوريين المحترفين، أي العمال الذين لم يشاركوا في أي عمل آخر غير العمل الحزبي، والذين يمتلكون المعرفة النظرية اللازمة والخبرة والممارسة التنظيمية والمهارة في القتال والتخلص من الشرطة القيصرية. ب) شبكة واسعة من المنظمات الحزبية المحلية وعدد كبير من أعضاء الحزب الذين كسبوا حب ودعم مئات الآلاف من الكادحين”. (SBKPT)

هذا هو المفهوم البلشفي للحزب.

إن نظرية الثورة المنشفية، التي أدخلت سور الصين بين الثورة البروليتارية والثورة البرجوازية، والتي أجّلت الحملة الثورية للبروليتاريا إلى وقت تتطور فيه الرأسمالية والديمقراطية في روسيا، عندما تُشكل البروليتاريا أغلبية معينة من السكان، وانعكس ذلك على موضوع الحزب.

وفقاً للمناشفة؛ كانت الطبقة العاملة الروسية لا تزال ضعيفة وهشة. من ناحية أخرى؛ لم يؤسس RSDİP  السري علاقات عضوية مع البروليتاريا. كانت تتألف فقط من المثقفين الذين “يمثلون العمال من حيث المبدأ”. لهذا السبب؛ إنّ هذا الحزب لا يمكن اعتباره حزباً حقيقياً للبروليتاريا. (كما يمكن أن يُرى؛ فإن المفهوم المنشفي ينص على أن العمال يجب أن يكونوا الأغلبية في المرحلة الأولى من التنظيم).

كان على الثورة البرجوازية أن تحقق شرعية برجوازية معينة في روسيا. يمكن للعمال أن يجتمعوا من خلال الاستفادة من هذه الحرية البرجوازية. سيشكل العمال المجتمعون نقاباتهم ومنظماتهم وأحزابهم. مهمة المثقفين الثوريين هي فقط مساعدة هذا التشكيل. لا يمكن أن ينتمي مفهوم حزب الثوريين المحترفين إلى الماركسيين الذين دافعوا عن الثورة الاشتراكية، ثورة الأغلبية. كان هذا المفهوم عائد إلى ثوريي البرجوازية-الصغيرة، اليعقوبيين الذين كانوا ثوار ثورة الأقلية. كان من الممكن أن يكون حزب البلانكيين المتآمرين، لكنه لا يمكن أن يكون لأولئك الذين أرادوا أن يصنعوا ثورة الأغلبية، الذين كان عليهم أن يؤسسوا الثورة على الجماهير. لاسيما أنّ ادّعاءات غير البروليتاريين بتمثيل البروليتاريا تحت اسم الثوريين المحترفين وإضفاء الوعي عليهم، هي بالكامل نتاج الفكر الغير ماركسي. (15)

وفقاً لمهري بيللي؛ ليس الثوريون المحترفون هم الذين سيرفعون الوعي وينظمون البروليتاريا في البداية. (للاطلاع على كل هذا، انظر مهري بيللي، الثورة الديمقراطية القومية)

كمفكر اشتراكي (!)  بقيَ مهري بيللي مخلصاً لهذا المفهوم باعتباره مبدأ حياته حتى النهاية. لهذا السبب لم يتعامل طوال حياته مع مسألة رفع وعي البروليتاريا وتنظيمها؛ لأن البروليتاريا؛ وفقاً لمفهومه الاقتصادي؛ سـ تعي بذاتها. إن مهمة الاشتراكيين الذين ليسوا من أصل بروليتاري ليست جلب الوعي إليها من الخارج.

ثم؛ وفقاً لهذا المفهوم؛ فإن المهمة الملقاة على عاتق الاشتراكيين (!) غير البروليتاريين مثل مهري بيللي؛ هي زيادة الوعي وتنظيم الطبقات الثورية خارج البروليتاريا، على سبيل المثال؛ البرجوازية-الصغيرة. ومهري بيللي هو “اشتراكيٌّ” عَمِلَ بجدٍّ لإنجاز هذه المهمة طوال حياته السياسية. يكفي إلقاء نظرة لعمله في هذا الموضوع على كتابه بـ اسم كتابات.

إن حكم البروليتاريا هو الإدارة الأكثر ديمقراطية. حزبها أيضاً هو الحزب الأكثر ديمقراطية ويتم تأسيسه من القاعدة إلى القمة بالطريقة الأكثر ديمقراطية.

في جو الحرية الذي خلقته الثورة البرجوازية عام 1905، لا يجب تنظيم العمال فحسب، بل أيضاً جماهير الشعب على نطاق واسع، في سوفييتات “غير حزبية”. إنّ ممثلو هذه البلديات والمنظمات العمالية ذات الحكم الذاتي؛ سيشكلون المؤتمر القومي، وهو الانتقال إلى “الجمعية التأسيسية”. وهكذا تستقر بيئة برلمانية برجوازية حقيقية في روسيا، وكان على البروليتاريا التي تشارك في انتخابات البلديات المحلية ذات الحكم الذاتي؛ جذب الشعب إلى جانبها. ولهذا السبب يجب أن يكون الحزب مفتوحاً لجميع العمال والمثقفين الاشتراكيين، وعلى نطاقٍ واسع.

هذا هو مفهوم المناشفة للتنظيم.

وكما رأينا؛ فإنّ هذين المفهومين المختلفين للتنظيم؛ ليسا سوى نتيجةً لمفهومين مختلفين للثورة.

5.

ثورة 1905 والثورة الشعبية الديمقراطية التي توقّعها لينين

العناصر التي تميز الثورة الديمقراطية التي توقعها لينين هي:

1) في الفترة الإمبريالية، القاطرة التي تدفع التاريخ إلى الأمام هي البروليتاريا. هذا هو السبب في أن البرجوازية الليبرالية الروسية قد فاتتها التاريخ. إنّ قائد الثورة البرجوازية هو البروليتاريا والتي هي الطبقة الثورية الوحيدة حتى النهاية.

“بما أنّ البروليتاريا هي الطبقة الثورية الأكثر تقدمية والوحيدة المتماسكة بحكم وضعها؛ فيجب عليها أن تلعب الدور الرئيسي في الحركة الثورية الديمقراطية العامة في روسيا”. (قرار المؤتمر الثالث لـ RSDİP ‘حزب العمال الديمقراطي-الاجتماعي في روسيا’، التكتيكَين)

2) إن القوى الرئيسية للثورة الشعبية الديمقراطية هي العمال، الفلاحون والبرجوازية-الصغيرة في المدن.

“… إن القوة الوحيدة القادرة على تحقيق النصر النهائي على القيصرية هي الشعب، البروليتاريين والفلاحين، أي –إذا لم نتعامل مع القوى الكبرى الأساسية، ووضعنا البرجوازية-الصغيرة في المدن والريف بين هذه القوى الأساسية (لأن البرجوازية-الصغيرة هي أيضاً الشعب)-. (لينين، التكتيكَين، الطبعة 2)

3) الوحدة الثورية الأساسية للقوى هي تحالف العمال-الفلاحين.

دعونا نتوقف قليلاً عند هذا التحالف بين العمال-الفلاحين. يحدد لينين السياسة الثورية بتحليل المنطقة الريفية في روسيا القيصرية على النحو التالي:

“في الواقع؛ مع أهدافها القريبة والبعيدة؛ نواجه ثلاث طبقات اجتماعية متميزة. كبار ملاك الأراضي، الفلاحون الأثرياء – وجزئياً الفلاحين المتوسطين- وأخيراً البروليتاريا. في مثل هذه الحالة؛ يجب أن تكون مهمة البروليتاريا في اتجاهين… ضد برجوازية القرية مع كل أشكال عقلية العبودية ضد الإقطاعيين الزراعيين مع بروليتاريا المدن، وضد برجوازية القرية وجميع العناصر البرجوازية الأخرى معاً؛ هذا هو الخط السياسي الذي يجب أن تتبعه بروليتاريا الريف ومُنَظِّرها الديمقراطي الاجتماعي!”. (البروليتاريا والفلاحون، تحالف العمال-الفلاحين)

ولينين؛ مشيراً إلى أنّ خلاص الفلاحين الفقراء والبروليتاريا الزراعية هي الثورة الاشتراكية، وأنّ تنظيمهم هي حزب البروليتاريا:

“إنّ RSDİP حزب طبقي للبروليتاريا يقوم بـ تنظيم البروليتاريا الريفية كطبقة مستقلة، يسعى بلا كلل، دون أن ينسى للحظة؛ أن يشرح للبروليتاريا الزراعية أنّ هناك تناقضاً بين مصالحه ومصالح برجوازية الريف، وفقط لضمان انتصار النضال المشترك للفلاحين وبروليتاريا المدن ضد المجتمع البرجوازي بأسره، من واجبه أن يخبر كل جماهير الفلاحين الفقراء؛ أنه قادر على تأمين انتصار الثورة الاشتراكية حيث هي الثورة الوحيدة التي يمكن أن تنقذهم حقاً من الفقر والاستغلال”. (المرجع نفسه)

بعد هذه التحليلات لـ لينين؛ تصبح مسألة تحالف العمال-الفلاحين في الثورة الشعبية الديمقراطية الروسية أكثر وضوحاً. إنّ تحالف العمال-الفلاحين ثنائي، داخل الحزب وخارج الحزب.

يوجد داخل الحزب تحالف بروليتاريا المدن والريف مع العناصر شبه-البروليتارية والفلاحين الفقراء. سيكون التحالف مع الفلاحين المتوسطين والأثرياء؛ خارج الحزب وعلى أسس طبقية منفصلة. وبعبارة أخرى؛ سيكون هذا التحالف بين الأحزاب الطبقية من كلا الطرفين. ستكون الثورة نتيجة لوحدة قوى حزب العمال والفلاحين. لكن البروليتاريا هي فقط المهيمنة في هذا التحالف. الحزب الذي سيقود هذا التحالف ويؤسس الهيمنة في الثورة؛ هو حزب الطبقة البروليتارية.

كما يقول لينين حول هذا الموضوع:

“إنّ شعارنا التكتيكي الذي صيغ في المؤتمر الثالث لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي في روسيا RSDİP؛ يتوافق مع شعارات البرجوازية الجمهورية والثورية الديمقراطية. هذه البرجوازية والبرجوازية-الصغيرة لم تشكل بعدْ حزباً شعبياً كبيراً في روسيا. إنّ التشكيك في وجود عناصر من هذا الحزب في البلاد؛ تعني ألا نفهم شيئاً عما يحدث الآن. إن نيتنا (في حال نجاح الثورة الروسية الكبرى) هي قيادة ليس فقط البروليتاريا التي نظمها الحزب الديمقراطي الاجتماعي؛ بل أيضاً قيادة البرجوازية-الصغيرة التي قد تكون قادرة على السير بـجانبنا”. (تكتيكَين، الطبعة 2)

ستتبع الثورة الطريق من المدينة إلى الريف

سيتم الإطاحة بالاستبداد القيصري من خلال انتفاضة البروليتاريا المسلحة في المدن الكبرى. وسيتم تنظيم الثورة – من القمة إلى القاع – من المدينة إلى الريف.

يقول لينين كما يلي:

“بما أنّ هذه الحركة قد استلزمت بالفعل انتفاضة مسلحة من الآن:

وبما أنّ البروليتاريا ستلعب حتماً الدور الأكثر نشاطاً في هذه الانتفاضة وأن مشاركة البروليتاريا ستحدد مصير الثورة في روسيا؛

فمن الضروري اتخاذ أكثر التدابير نشاطاً لتسليح البروليتاريا، وفي الوقت نفسه وضع خطط للانتفاضة المسلحة وقيادتها المباشرة، وتشكيل مجموعات خاصة من مناضلي الحزب لهذا الغرض عند الضرورة”. (تكتيكَين)

وفقاً للينين؛ ستلعب البروليتاريا الدور الرئيسي في هذه الانتفاضة وستنتصر الثورة نتيجةً لانتفاضة القوى المسلحة العمالية والجيش العمالي [الجيش الأحمر] على نطاق واسع. لكن دعم الفلاحين ضروريٌّ لتحقيق انتصار الطبقة العاملة.

السلطة التي سيتم إنشاؤها ستكون سلطة القوى الأساسية؛

الدكتاتورية الثورية للعمال والفلاحين

“النصر النهائي للثورة ضد القيصرية؛ إنها الدكتاتورية الثورية للبروليتاريا والفلاحين”. (لينين، تكتيكَين)

دعونا نتناول بإيجاز موضوع مهم للغاية هنا: القارئ الذي يقرأ التكتيكين بعناية سيرى أنّ لينين كان يعتبر الفلاحين والبرجوازية-الصغيرة في المدن من بين القوى الأساسية. وبصرف النظر عن هذا؛ فهو يتحدث باستمرار عن البروليتاريا فقط باعتبارها القوة الأساسية في الثورة.

علاوة على ذلك؛ في مبادئ اللينينية؛ يعتبر ستالين البروليتاريا فقط القوة الأساسية في مرحلة الثورة الديمقراطية، ويشير إلى الفلاحين كقوة احتياطية.

عجباً؛ كان لينين؛ في تلك الفقرة؛ قد أخطأ في اعتبار الفلاحين والبرجوازية-الصغيرة في المدن من بين القوى الأساسية؟ أم أنها زلة قلم؟

بالطبع لا. لا يوجد تعارض أو تناقض بين صياغة لينين في تلك الفقرة والصياغات الأخرى التي قدمها هو وستالين، هناك توحيد وتطابق كامل.

المسألة هي هذا؛ إنّ الثورة الشعبية الديمقراطية التي تشكل فيها البرجوازية-الصغيرة في المدن والريف أيضاً القوى الأساسية؛ ستنتصر من خلال الانتفاضة المسلحة للشعب في المدن. في هذه الانتفاضة ستلعب البروليتاريا الدور الأكثر حيويةً ونشاطاً كمشاركة طبقية. ستجذب البروليتاريا جماهير الشعب إلى جانبها، وتستولي على السلطة نتيجة لانتفاضتها المسلحة، وهكذا سيتم إنشاء الديكتاتورية الثورية للعمال-الفلاحين.

كما يرى؛ فإن القوة الجماهيرية الأساسية لهذه الثورة هي الطبقة العاملة. دور الفلاحين في الثورة كمشاركة طبقية؛ ثانوي، نسبي.

إنّ صياغة لينين وستالين بأنّ “البروليتاريا هي القوة الأساسية، والفلاحون هم القوة الاحتياطية” هي أنّ مركز ثقل الثورة هو المدن، وبالتالي فإن القوة الجماهيرية الأساسية للثورة هي البروليتاريا.

ونفس الشيء موجود في صياغة ماو لاصطفاف الطبقات في ثورته الديمقراطية الجديدة. في صياغة ماو للثورة الديمقراطية الجديدة؛ يقال أحياناً إنّ “القوة الأساسية هي الفلاحين” وأحياناً “العمال، الفلاحون والبرجوازية-الصغيرة في المدن”. هذه الصيغة التي تبدو للوهلة الأولى متناقضة مثل صياغة لينين؛ ليست متناقضة. عندما يقول ماو إن “الفلاحين هم القوة الأساسية”؛ فإنه بالتأكيد لا يقلل من دور البرجوازية-الصغيرة في المدن، وخاصة البروليتاريا في الثورة.

السبب في صياغته بهذه الطريقة هو أن الثورة اتبعت طريقاً من الريف إلى المدن، بعد حرب الشعب؛ أي بسبب الاختلاف في نقطة انطلاق الثورة. بما أن جماهير الشعب في الريف هم الفلاحون؛ فإن الفلاحين هم القوة الجماهيرية الأساسية للثورة. وبما أن الفلاحين هم القوة الجماهيرية الأساسية للثورة، فقد صيغت أنّ “البروليتاريا هي القوة الرائدة، والفلاحون هم القوة الأساسية”.

هذا هو الفرق الأساسي بين الثورة الشعبية الديمقراطية الروسية والبلدان المستعمرة وشبه-المستعمرة تحت احتلال الإمبريالية.

هذا الاختلاف مهم للغاية. إن مفهوم الثورة، مفهوم التنظيم وأسلوب العمل التي تتوخاها كلتا الصيغتين تختلف اختلافاً جوهرياً. وهذا الاختلاف ليس اختلافاً بدرجة أو بأخرى، ولكنه العامل الأساسي الذي يحدد الخط الأيديولوجي-السياسي والعملية. (سنتوقف بشكل ما حول هذا الموضوع بالتفصيل في الفصول التالية)

من المتوخى أيضاً صياغة الثورة المتواصلة في تكتيكين لتركيا تحت احتلال الإمبريالية. يحاول الدكتور حكمت كيفلجملي بوضوح تطبيق الصيغة في تكتيكين على الواقع الطبقي في تركيا.

نصل إلى هذا الاستنتاج من خلال النظر في التحليلات الواردة في كتب الدكتور حكمت كيفلجملي. يقصد; الدكتور حكمت كيفلجملي في كتبه:

1) لا يشترط في حزب العمال على أن يكون العمال الأغلبية المطلقة. كما يشير إلى أنه يوجد، أو يجب أن يوجد، حزب فلاحي خارج الحزب الطبقي للبروليتاريا.

حول هذه المواضيع؛ يقول الدكتور كيفلجملي:

“حزب الشعب لا يزال بعيداً جداً عن أن يكون حزب الفلاحين”. (خطط الحرب الشعبية)

“لكن يجب على حزب العمال ألا يتجاهل حقيقة أنه أبعد ما يكون عن كونه حزباً بروليتارياً، ما لم يكن العديد من المواطنين العاملين قد دخلوا في تنظيم TİP الحزب العمال التركي، والمنظمات الموجودة في احتياطي الحزب العمال التركي، التي ألقت بالمواقع حتى بعض المدن والبلدات وحتى عدد قليل من القرى، قد استحوذت بالفعل على الأغلبية والقيادة”. (وبالمثل، الخط المائل عائد لنا)

“أن يفوق عدد أعضاء الطبقة العاملة في المنظمة”. [ينبغي] (ما هي الانتهازية؟)

2) إن اختياره للمدن كميدان أساسي للنضال الثوري هو نتيجة طبيعية لذلك، والتموقع الطبقي يأخذ البروليتاريا كقوة أساسية ويدافع عن قيادتها الفعلية، وليست أيديولوجيتها. (أي أن البروليتاريا هي القوة الجماهيرية الأساسية الثورية كمشاركة طبقية). (انظر خطط الحرب الشعبية)

علماً؛ أنّ النظرية الماركسية-اللينينية للثورة المتواصلة؛ منذ صياغتها في التكتيكين إلى يومنا هذا قد تغيرت في مواجهة التغيرات المختلفة في الحياة، وتم إثراؤها وتعميقها من خلال التجارب الجديدة. إن الفترة الراهنة؛ ليست بداية أزمة الرأسمالية. تركيا أيضاً مثل روسيا القيصرية؛ ليست واحدة من 5-6 دول استعمارية كبرى في العالم، بل على العكس من ذلك؛ فهي شبه-مستعمرة تحت احتلال الإمبريالية.

إن حصر وتجميد النظرية الماركسية-اللينينية للثورة المتواصلة في صياغة التكتيكين، واعتبارها نموذجاً عالمياً تنطبق على كل فترة، ومحاولة تطبيقها على الواقع الطبقي للبلاد، يضع المرء في انحراف-يميني، كما سنبين بالتفصيل في الفصول التالية.

في صياغة لينين لتكتيكين نرى النهج قريباً من النموذج في مهري بيللي. (على سبيل المثال؛ إعلان CHP حزب الشعب الجمهوري كحزب الفلاحين وأجاويد كزعيم للفلاحين، واتخاذ المدن كـأساس، وما إلى ذلك).

لكن من الصعب حقاً وضع مهري بيللي في مكان معين. لأنه لايملك خط معين؛ وليس لديه طريق متسق. أحياناً؛ يقول أنه من الدوغمائية اتخاذ قيادة الطبقة العاملة كحقيقة مطلقة، وأحياناً أخرى يتخذ قيادة الطبقة العاملة كقيادة فعلية. مرة أخرى؛ بينما يقول في بعض كتاباته إن حزب البروليتاريا لا يمكن تأسيسه في ظل الظروف الديمقراطية الفلبينية، في مقال آخر؛ يمكنه بسهولة اتهام أولئك الذين يقولون نفس الأشياء بالانتهازية اليمينية.قام بتزوير كتابات ثوريٍّ في إحدى مقالاته بأنّ الطرح الأيديولوجي للطبقة العاملة ضروري في مرحلة MDD الثورة الديمقراطية القومية؛ بشعوذة لا يقبله عاقل، بينما يستنتج من ناحية أخرى عندما يراد القيام بثورة بدون الطبقة العاملة؛ يمكنه القول بسهولة أنه يمكن أن تكون هناك ثورة تحت قيادة البرجوازية-الصغيرة حتى بدون الطبقة العاملة!..

من الممكن إضافة العديد من الأمثلة إلى هذا.

باختصار؛ ليس من المؤكد ما يقوله مهري بيللي. الشيء الوحيد المؤكد هو عدم تأكيده. في الواقع؛ مهري بيللي هو “اشتراكي” لا يؤمن بأحد ولا بشيء (بما في ذلك الاشتراكية العلمية ومؤسسيها) عدا نفسه؛ والذي “يجد المعرفة في نفسه”.

إنه “سياسي-واقعي” بحت يسعى  وراء الحسابات الصغيرة. (إنه سياسي واقعي بالمعنى البرجوازي). ومثل كل سياسي-واقعي؛ في ذروة الكسل؛ يتجول مثل قنبلة موقوتة!

6.

مرحلة التطور، مرحلة الثورة

إن مسألة مرحلة التطور عند ماركس وإنكلس؛ ومرحلة الثورة والظروف الموضوعية للثورة تصبح واضحة في تحليلات لينين. ليس هناك شك في أن الفترة التي عاش فيها لينين كانت عصر الثورات البروليتارية وأن لينين كان لديه تجربة ثورتين لعبت دوراً كبيراً في ذلك.

وفقاً للينين؛ في الفترة الإمبريالية؛ توجد في جميع البلدان شروط موضوعية للثورات البروليتارية في مفهوم الثورة المتواصلة. إن المستوى الذي وصلت إليه القوى المنتجة على الصعيد العالمي ناضج للقيام بثورة. إن الشروط الذاتية للثورة غير متوفرة بسهولة. أسس اللينينية؛ بمعنى ما؛ هي إعداد الشروط الذاتية للثورة. (16) سنرى في الفصول التالية أن إدراك هذه الحقيقة هو جوهر المسألة.

أجرى لينين تغييرات في تمييز ماركس وإنكلس بين مراحل التطور والثورة بسبب الاختلاف في الأوضاع الملموسة.

وفقاً لماركس وإنكلس؛ عندما تنضج الظروف الموضوعية للثورة على المستوى العالمي؛ يجب أن تكون لغة الاشتراكيين فرنسية.

كما هو معروف؛ فإنّ عصر الإمبريالية هو العصر الذي تنضج فيه الظروف الموضوعية للثورات على الصعيد العالمي. وفقاً للمنطق المستقيم؛ فإنّ النتيجة الطبيعية لمقترحات ماركس وإنكلس؛ أنّ مهمة الاشتراكيين في هذه الفترة هي التحدث بالفرنسية بشكل متواصل، والهجوم باستمرار، بحماس، على الدوام! (الفكر التروتسكي قائم إلى حد ما على هذا).

لكن هذا ليس هو الحال مع المنطق الديالكتيكي. الثورة العالمية لن تكون في نفس الزمن أبداً. أولاً سيكون في بلد واحد أو عدة بلدان. لهذا السبب؛ على البروليتاريا في كل بلد أنْ تخوض نضالاً تدريجياً داخل حدودها. لأن تحرير البروليتاريا في كل بلد؛ سيكون من أثر البروليتاريا في البلاد. لا يمكن استيراد الثورات ولا يمكن تصديرها أيضاً.

من أجل أن تكون هناك ظروف موضوعية للثورة في بلد ما؛ بالإضافة إلى الأزمة العامة للرأسمالية على المستوى العالمي؛ يجب أن يعاني هذا البلد أيضاً من أزمته القومية.

وفقاً للتمييز اللينيني؛ لكي تكون في مرحلة الثورة؛ أ) يجب أن يكون مستوى وعي البروليتاريا وتنظيمها كافياً للثورة. (يجب أن تكون الشروط الذاتية للثورة مناسبة). ب) من الضروري أن تكون هناك أزمة قومية تؤثر على كل من المضطهِد والمضطهَد. (17) هذه الأزمة القومية؛ ليست سوى انعكاس أكثر حدة لتناقضات الأزمة العامة للرأسمالية في ذلك البلد.

مرحلة الثورة هي لحظة وجيزة. مرحلة التطور هي فترة طويلة.

فترة التطور

لغة الخطاب الثوري لفترة التطور هي الألمانية. لا يوجد مجال لتحقيق حملة ثورية في الفترة الناطقة بالألمانية. إن نمط العمل الثوري في هذه الفترة هو رفع وعي البروليتاريا، وتنظيمها، وتعزيز الروابط بين البروليتاريا وطليعتها، وتثقيف جماهير الشعب العامل من أجل الثورة من خلال كسبهم إلى صفوف البروليتاريا.

إذا كان حزب البروليتاريا قد تأسس؛ فإن العمل الثوري هو تحويله إلى حزب جماهيري سياسي بروليتاري؛ تكثيف علاقاتها العضوية مع الجماهير من خلال مختلف المنظمات المهنية، ورفع الوعي الطبقي للبروليتاريا والشعب العامل، والسير في أقصى يسار المعارضة الديمقراطية، وفضح الطبقات الحاكمة بدعاية سياسية مكثفة.

إذا لم يكن حزب البروليتاريا قد تأسّس بعدْ؛ فإنّ المهمة الرئيسية هي تشكيل مفرزة طليعية للبروليتاريا. في غياب الحزب الطبقي للبروليتاريا؛ وحتى في حالة الوضع الثوري؛ لا يمكن أن تكون اللغة الثورية البروليتارية فرنسية!

يلخص لينين نمط العمل الثوري البروليتاري في هذه الفترة على النحو التالي:

“لقد دفعت الدعاية والتوعية، التوعية والدعاية حقاً إلى الواجهة بسبب الظروف الموضوعية في ذلك الوقت. إنّ العمل على نشر صحيفة سياسية والتي بدت بشكل مثالي أنها تنشر أسبوعياً؛ جذابة للبلد بأسره؛ في ذلك الوقت؛ بدا أنّه حجر الزاوية في عمل التحضير للثورة (وهذه هي المسألة التي أشار إليها ما العمل؟). كان (بدلاً من العمل المسلح) شعار رفع وعي الجماهير، (بدلاً من الانتفاضات المحلية) شعار تهيئة الأوضاع الاجتماعية والنفسية للانتفاضة، لقد كانت الشعارات الصحيحة الوحيدة للديمقراطية الاشتراكية-الثورية في ذلك الوقت“. (تكتيكَين، الطبعة الثانية)

يصف ستالين تكتيك التراجع بعد هزيمة 1905-1907 على النحو التالي:

“في الفترة 1907-1912 اضطر الحزب إلى تبني تكتيك التراجع؛ ولأن العمل الثوري قد تباطأ؛ كان هناك جزر للثورة، وكان على التكتيكات أن تأخذ هذه الحقيقة بعين الاعتبار. ونتيجة لذلك؛ تغيرت أشكال النضال وأشكال التنظيم مرة أخرى. الانضمام إلى مجلس الدوما بدلاً من مقاطعته؛ التدخلات والعمل في مجلس الدوما بدلاً من العمل العلني خارج البرلمان، الإضرابات الاقتصادية الخاصة بدلاً من الإضرابات السياسية العامة، أو التقاعس الصريح”. (مبادئ اللينينية)

كما يُرى؛ فإن القيام بمقاطعة البرلمان في فترات التطور، والذهاب إلى إضرابات سياسية عامة، وأساليب اللجوء إلى جميع أشكال العمل المسلح؛ ليست ثورية. إن اللجوء إلى هذه الأساليب في هذه الفترة ليست سوى انتهازية يسارية. إن أساليب العمل الثورية؛ ترفع وعي الجماهير الكادحة وخاصة البروليتاريا، الدعاية، والإضرابات الاقتصادية الخاصة والمعارضة الديمقراطية.

مرحلة الثورة

في مرحلة الثورة يتغير تماماً أسلوب عمل الحزب البروليتاري وشعاراته. في مرحلة ثورة 1905، يقول لينين ما يلي فيما يتعلق بـ شعارات وتكتيكات مرحلة التطور:

” … الآن تجاوزت الأحداث هذه الشعارات، لأن الحركة قد أحرزت تقدماً؛ هذه الشعارات أصبحت قديمة الآن، أشياءٌ أتمّت الخدمة واستُعْمِلَتْ”. (تكتيكَين، الطبعة 2)

من الضروري تقييم هذه السنوات العشرين؛ هذه الفترة القصيرة تعادل يوم واحد بشكل جيد للغاية: من الضروري أنْ نفهم جيداً “أنّ الثورة؛ ساعتها مختلفة عن الساعات العادية والتقليدية، مختلفة عن ساعات إعداد التاريخ، وأنّ غليان (الحالة الروحية) مزاج الجماهير في ساعات الثورة يجد تعبير إيمانه كـ عملية

هذه هي الأيام النادرة التي تغني فيها جوقة(كورال) الجماهير أغاني حالة الثورة. هذه الفترة هي الآن فترة الحملة الثورية. في هذه الفترة؛ تتحدث الجماهير لغة واحدة: ألا وهي الفرنسية. والتحدث بهذه اللغة هو فن بحد ذاته… هذا هو المكان الذي يصبح فيه القلب الفرنسي أو الحملة الثورية الروسية مهماً. العديد من الثوريين الناجحين في فترات التطور التي افتقرت إلى هذه الحملة، العديد من ثوار العلماء؛ كانوا نتيجة العجز في هذه الفترة؛ يسبحون في مستنقع الجبن والخيانة.

تنقسم هذه الفترة القصيرة بحدِّ ذاتها أيضاً إلى ثلاثة أجزاء: الدورة الانتقالية، دورة الهجوم التكتيكي ودورة الهجوم الاستراتيجي.

أ‌) الدورة الانتقالية الفرنساوية:

تبدأ مباشرةً في نهاية فترة التطور. إنها تكتيك الدورة الناطقة بالفرنسية، حيث تتصاعد موجة الثورة تدريجياً وتبدأ بهز الجماهير ويتحول إيمان الجماهير إلى أعمال جماهيرية.

خلال فترة ثورة 1905، كانت لهجة الخطاب الفرنسي هذه على النحو التالي: الإضرابات السياسية المحلية، والهتافات، الإضرابات السياسية العامة ومقاطعة مجلس الدوما.

يشرح ستالين التكتيك البَلشفي في هذه الفترة على النحو التالي:

“تعليم الطليعة حول احتجاجات الشارع من خلال المظاهرات والهتافات وفي الوقت نفسه ربط الاحتياطات بالطليعة من خلال السوفييتات وراء الجبهة ولجان الجنود في الجبهة”. (مبادئ اللينينية، هذا القسم المنقول هو تكتيك التحدث بالفرنسية في الدورة الانتقالية لفترة ثورة 1917)

ب‌) دورة الهجوم التكتيكي:

هذه الدورة القصيرة هي الدورة التي تتعلم فيها الطليعة احتجاجات المدينة وبالتالي تكون قادرة على قيادة جماهير الشعب ويتعلم جماهير الشعب التكتيكات الصحيحة للانتفاضة. هذه الفترة هي الفترة التي تزداد فيها الإمكانات الثورية للشعب بشكل جيد، وتقترب موجة الثورة من أعلى مستوياتها، وتتكثف فيها الهجمات التكتيكية للطليعة قبل الهجوم الأخير. الغرض الرئيسي من هذه الدورة؛ هو خلق الإحباط والذعر في صفوف العدو، وتفكيك جبهة الثورة-المضادة وفتح الشروخ.

التكتيكات الثورية لدورة الهجوم التكتيكي لثورة 1905؛ هي حرب المتاريس (حرب شوارع) وكريلا المدن. يتكون كريلا المدن من بروليتاريا المدن.

فيما يتعلق بموضوع تعليم تكتيك الانتفاضة لجماهير الشعب كواحدة من المهام المختلفة لـ كريلا المدن، يقول لينين في مقالته؛ الدروس المستخلَصة من انتفاضة موسكو:

“إنّ حرب الكريلا وأعمال العنف المروعة التي تدور في جميع أنحاء روسيا منذ ديسمبر بالطبع ستساعد الجماهير في تعلم التكتيك الصحيح للانتفاضة”.

ج) دورة الهجوم الاستراتيجي:

الانتقال إلى الجيش النظامي والانتفاضة:

في 10 يونيو/حزيران 1905، قال لينين:

“ومضات-مظاهرات-قتال شوارع، وحدات الجيش الثوري: هذه هي مراحل تطور الانتفاضة الشعبية. لقد وصلنا الآن إلى المرحلة النهائية”.

تعمقت الأزمة الاقتصادية والسياسية بشكل جيد ووصلت إلى أعلى مستوياتها. الانتظار أكثر من ذلك؛ هو على حد تعبير لينين؛ جريمة. وأصبحت الانتفاضة المادة الأولى على جدول الأعمال. يتم تنفيذ الهجوم الاستراتيجي مع الجيش النظامي، مع الجيش المنظَّم. للهجوم النهائي؛ أولاً وقبل كل شيء؛ يتم جمع جميع القوات المتناثرة معاً، يتم تأسيس الجيش الأحمر. (الجيش الأحمر هو أيضاً جيش البروليتاريا). يتم الآن استبدال تكتيكات حرب المتاريس وكريلا المدن بتكتيكات الانتفاضة للجيش الأحمر.

يرسم لينين تكتيكات انتفاضة أكتوبر بالشكل التالي:

“… من أجل فهم الانتفاضة بشكل ماركسي؛ أي كـ فن في نفس الوقت؛ دون خسارة ثانية واحدة؛ يجب علينا تنظيم الأركان العامة للفصائل الثورية، تقسيم قواتنا، وإرسال أفواج موثوقة إلى أهم النقاط، ومحاصرة مسرح ألكسندرا، ويجب احتلال قلعة بيير بول، واعتقال هيئة الأركان العامة والحكومة، وإرسال مفارز جاهزة للموت ضد الطلاب العسكريين والفرقة المتوحشة، بدلاً من السماح للعدو بدخول المراكز الحيوية للمدينة؛ يجب علينا حشد العمال المسلحين، ودعوتهم إلى النضال الأخير الذي لا يرحم، يجب في الوقت نفسه إشغال الهاتف والتلغراف، وتمركز الأركان العامة الثورية التابعة لنا في مقر الهاتف وتوصيله هاتفياً بجميع المصانع، جميع الأفواج، كل مراكز النضال المسلح، إلخ”. (الماركسية والثورة، أطروحات أبريل/نيسان ودروس أكتوبر/تشرين الأول)

هذه هي الطريقة التي اتّبعتها الانتفاضة السوفييتية. بالطبع؛ لا تتدفق الحياة أبداً وفقاً لهذا الرسم التخطيطي أو ذاك حرفياً. كل تجريد وتخطيط يهمل قسماً من الحقيقة ويبالغ حتماً في قسمٍ ما. لكن التحليل النظري يؤدي دوره كدليل للعمل من خلال تسهيل فهم تعقيدات الحياة وتعددها.

لذلك في هذا الرسم التخطيطي لا ينبغي وصف الفترات على أنها منفصلة عن بعضها البعض بطريقة ميكانيكية، بل على أنّها حلقات داخلية متشابكة للعملية.

___________________________________________

الحواشي السفلية

* “الثورة المتواصلة – 1″؛ إنها نص نظري كتبه ماهير جايان؛ مؤسس وقائد حزبنا؛
THKP-C(حزب تحرير شعب تركيا- جبهة). تم نشره لأول مرة في أبريل 1971 من قِبَل منشورات KURTULUŞ (كورتولوش).

(1) يستخدم مفهوم الثورة هنا بمعنى الثورة البروليتارية أو الثورة الديمقراطية تحت هيمنة البروليتاريا.

(2) تؤسس البروليتاريا دكتاتوريتها في الثورة الاشتراكية؛ والشعب ديكتاتوريته في الثورة الديمقراطية.

(3) الشعب مفهوم سياسي. إنه تركيبة الطبقات التي تجتمع وفقاً للمرحلة الثورية المعاشة، والتي تتعارض مصالحها مع الطبقات الحاكمة القائمة.

(4) وفقاً لماركس وإنكلس؛ إذا أحدثت الثورة السياسية تحولاً اجتماعياً، فهي بنفس الوقت ثورة اجتماعية. إذا لم يحدث ذلك؛ فإنها تبقى ثورة سياسية. تعريف العامل الشيوعي في مقدمة المانيفستو للطبعة الإنجليزية لعام 1888 هو كما يلي: “كل قطاع من الطبقة العاملة الذي آمن بعدم كفاية الثورات السياسية وأعلن ضرورة التغيير الاجتماعي الشامل؛ وصف نفسه بأنه شيوعي”. (مانيفستو)

(5) هذا المعيار صحيح أيضاً في عصرنا؛ بالتمييز بين قوة ثورية تقدمية، قومية، برجوازية-صغيرة حقيقية في البلدان المستعمرة وشبه-المستعمرة، وبين قولاً فقط؛ تقدمية، مضادة-للإمبريالية، والتي في جوهرها ليست سوى تغيير السلطة في الإمبريالية بتجديد الحكومة.

(6) الراوي، بوماروي، حرب الكريلا والماركسية.

(7) تعميق الأزمة الاجتماعية: إنه الحد النهائي لإفقار العمال في المجتمع. أي أنه تعميق استقطاب الطبقات في المجتمع البرجوازي. إن تطور القوى المنتجة يعوق تماماً علاقات الإنتاج.

(8) إن جوهر نظرية الثورة المستمرة التي حاول تروتسكي أن يؤسسها استناداً على ماركس؛ ينتمي إلى غوتخالك وويتلينك من الشيوعيين الفظّين. أي أنّ النظرية التروتسكية للثورة المستمرة؛ ليست نظرية ماركسية.

(9) لا ينبغي تفسير هذا بمعنى أنّ ماركس كان ضد الوطنية. وفقاً لماركس وإنكلس؛ لقد ناضلت البروليتاريا في المقدمة كلما كان يتعرض وطنها للخطر في كل زمان وفي كل مكان. ويجب أن تقاتل. من وجهة النظر هذه؛ فإنّ الطبقة الوحيدة التي هي قومية حتى النهاية هي البروليتاريا. ماركس الذي قال أنّ العمال ليس لديهم وطن، يقول ما يلي عن كومونة باريس، حكومة عمالية: “وهكذا أصبحت الكومونة الممثل الحقيقي لجميع العناصر الصحية في المجتمع الفرنسي، وبالتالي الحكومة القومية الحقيقية لفرنسا. وفي نفس الوقت؛ وبصفتها محاربة شجاعة من أجل حكومة عمالية وتحرير العمل، كان لها طابع أممي بالمعنى الحقيقي للكلمة”. (الحرب الأهلية في فرنسا، الخط المائل عائد لنا).

في غضون ذلك؛ كانت البروليتاريا هي التي رفعت علم الوطن والأمة في مواجهة غزو الجيوش البروسية ودافعت ببطولة عن الوطن، وليست البرجوازية الفرنسية. “كان انتصار باريس على بروسيا العدوانية انتصاراً للعامل الفرنسي على الرأسماليين الفرنسيين وطفيليات الدولة. في هذا الصراع بين الواجبات القومية والمصالح الطبقية؛ لم تتردد حكومة الدفاع القومي (الحكومة البرجوازية) لحظة في التحول إلى حكومة خيانة وطنية”. (المرجع نفسه، الخط المائل عائد لنا)

(10) “نظرية الكوانتوم” لبلانك؛ شكلت النظرية النسبية لأينشتاين حجر الزاوية في الفيزياء الذرية الحديثة. بالإضافة إلى ذلك؛ الإنتاج الضخم في الصناعة (الإنتاج الضخم لسيارات فورد)، والتوسع في استخدام محركات الاحتراق الكهربائية والداخلية، إلخ.

(11) المقصود؛ تحويل الثورة الديمقراطية البرجوازية إلى ثورة اشتراكية، لإحداث ثورتين في فترة واحدة.

(12) كما يُرى؛ فإن جوهر الثورة اللينينية المتواصلة؛ يرتكز على حقيقة أن الاشتراكيين في بلد لم يكمل ثورته الديمقراطية البرجوازية، يخوضون في الفترة الإمبريالية ثورتين في فترة واحدة، وهما مختلفتان تماماً عن بعضهما البعض في طابعهما وأهدافهما وتحالفاتهما. وبعبارة أخرى؛ في الفترة الإمبريالية؛ في جميع هذه البلدان؛ القوة الوحيدة التي يمكن أن تقود هذه الثورة إلى النصر هي البروليتاريا. أي أنّ قائد الثورة الديمقراطية لا يمكن إلا أن يكون البروليتاريا. والبلد الذي يقوم بثورة ديمقراطية برجوازية في الفترة الإمبريالية؛ يتجه نحو الاشتراكية مهما كانت الظروف.

هذا هو جوهر هذه الثورة. لقد تعمقت هذه الأطروحة وأثريت منذ لينين، كما سنبين في الفصول التالية.

في الفترة الإمبريالية؛ وبغض النظر عن الوضع في الظروف العالمية؛ هناك مَن يعارض باسم الاشتراكية العلمية في تركيا؛ أنه لا يوجد مفترق طرق أمام بلد قام بثورته الديمقراطية، بل هناك طريق واحد فقط للاشتراكية. أحد ممثلي هذا الرأي؛ وهو تعبير آخر عن المنشفية؛ والشخص الذي صاغ هذا الرأي على أكمل وجه؛ هو مهري بيللي. وفقاً لـمهري بيللي؛ إنها قدرية؛ بأن نضع المسألة بهذه الطريقة (كما وضعها لينين). والقول بأن هناك طليعة واحدة فقط للثورة الديمقراطية، والقول أنّ هذه الطليعة هي أيضاً البروليتاريا، هو قول حازم. إنّ جعل الموضوع مسألة تفاوض؛ حيث البرجوازية في الثورة لا تكون طليعة، لكن البرجوازية-الصغيرة ربما تكون طليعة. (انظر الثورة-المضادة التركية، اليسار التركي، العدد 64، ص 21). أيدينليك، العدد: 9، ص: 270، إلخ.)

(13) مع الأخذ بعين الاعتبار الغرض من هذا المقال؛ فإننا نستبعد من تحليلنا عملية الثورة الثقافية لنظرية الثورة المستمرة التي تجري من المجتمع الاشتراكي إلى المجتمع اللاطبقي.

(14) هذا المبدأ؛ لا ينطبق على البلدان التي يتعين عليها شن حرب شعبية. بمعنى آخر؛ الغالبية المطلقة من العاملين في التنظيم في هذه المرحلة الثانية لا تنطبق على هذه البلدان. إذا كانت للحرب الشعبية أن تُشَنْ، فيجب أن تحتضن الفلاحين الفقراء في الريف. بين عمال الحزب؛ الفلاحون في هذه البلدان يفوقون العمال من حيث الكمية. هذه نتيجة طبيعية لتعميق المفهوم اللينيني للحزب مع مرور الوقت، لحقيقة أنّ الجانب الإرادي لنظرية الثورة أكثر هيمنة.

(15) إن مسألة الانتقال الداخلي للوعي ونظرية سور الصين العظيم هما جزء من نفس الكل الأيديولوجي. أولئك الذين يبرزون دائماً سور الصين العظيم بين الثورة البرجوازية والثورة الاشتراكية في كل زمان وفي كل مكان؛ يعارضون الانتقال الخارجي للوعي بكلمات مختلفة. هذا ليس خاصاً فقط على الاقتصاديين في روسيا القيصرية في 1900؛ بل على فصيل المناشفة الذي قبل هذا الرأي فيما بعدْ. المناشفة هي تيار انتهازي أتيحت له دائماً فرصة العيش في اليسار بشكل أو بآخر في كل فترة من عصر الإمبريالية وفي كل بلد. على سبيل المثال؛ في تركيا؛ إنّ منظّر سور الصين العظيم مهري بيللي هو أيضاً يعارض الانتقال الخارجي للوعي. وفقاً لمهري بيللي؛ من الخطأ القول أنّ الوعي سينتقل خارجياً. وقد ذكر لينين هذه الفكرة مرة واحدة بإيجاز شديد نقلاً عن كاوتسكي، ولم يذكرها مرة أخرى (أي أنّ لينين تخلى عن هذه الفكرة لاحقاً!). وفقاً لهذا الرأي؛ لم يدافع لينين عن الانتقال الخارجي للوعي، بل إلى انتقاله من الداخل (!).

(16) فيما يتعلق بمسألة إعداد العامل الذاتي للثورة كأساس لـ اللينينية؛ يقول ديميتروف: “تحت قيادة الحزب البلشفي ولينين الخالد؛ شارك حزبنا في تشكيل الأممية. قد قَبُلَ إعلاناً جديداً للبرنامج وفهم الثورة البروليتارية ليس كهدف للمستقبل الغامض، بل كمهمة كانت شروطها الموضوعية ناضجة ويعتمد إنجازها على العامل الذاتي للثورة، أي أنها تصورتها كمهمة تعتمد على استعداد الحزب وقدرته على تنظيم وإدارة الثورة نفسها”. (الدورات الرئيسية في تطور الحزب، نحو الجمهورية الشعبية)

(17) يحلل لينين الأزمة القومية (الأزمة الثورية) على النحو التالي: “بالنسبة للماركسيين؛ الثورة مستحيلة بدون وضع مُواتٍ للثورة، وعلاوةً على ذلك؛ ليس كل وضعٍ ثوري يؤدي إلى ثورة. ما هي أعراض حالة الثورة بشكل عام؟ نعتقد أنّنا لن نكون مخطئين إذا قمنا بإدراج المحددات الرئيسية الثلاثة التالية: 1. عندما يصبح من المستحيل على الطبقات الحاكمة الحفاظ على هيمنتها دون تغيير، عندما تكون هناك أزمة بطريقة أو بأخرى بين الطبقات العليا؛ عندما تفتح هذه الأزمة في سياسة الطبقة الحاكمة ثغرة تسمح بالكشف عن سخط واستياء الطبقات المضطهدة، لكي تكون هناك ثورة لا يكفي في كثير من الأحيان أن لا تريد‘ ‘الطبقات الدنيا العيش بالطريقة القديمة، ولكن يجب أن تتوقف الطبقات العليا أيضاً عن العيش بالطريقة القديمة. 2. عندما تصبح مشاكل واحتياجات الطبقات المضطهدة لا تطاق، 3. نتيجة للأسباب المذكورة أعلاه؛ يتحملون سرقتهم بسلام دون أن يتفوهوا بكلمة، ولكن عندما يكون هناك زيادة كبيرة في نشاط الجماهير في أوقات الاضطرابات، سواء في ظل الظروف التي خلقتها الأزمة أو في حقيقة أن “الطبقات العليا” نفسها تجرها إلى عمل تاريخي مستقل.

بدون هذه التغييرات الموضوعية المستقلة؛ ليس فقط عن المجموعات والأحزاب واحدة تِلوَ الأخرى، بل أيضاً عن إرادة الطبقات المنفردة، فإن الثورة مستحيلة؛ كقاعدة عامة. كل هذه التغييرات الموضوعية تسمى حالة الثورة”. (فلايمير ايليتيش لينين: الاشتراكية والحرب).


ترجمة من تركي ألى عربي محمد كمال

image_pdf
Bunları da beğenebilirsin

Cevap bırakın

E-posta hesabınız yayımlanmayacak.